June 16, 1983

الوضع وصل الآن إلى درجة من السوء لم تكن تدور بخلد أحد من مديري الأزمة في الحكومة، رغم أن الكثيرين – ومنهم الكاتب – كانوا يتوقعون هذا الذي يحدث الآن، والسبب في اختلاف الاستنتاج يعود أساساً إلى الاختلاف في تشخيص الأزمة.

فلقد تم تشخيصها على أساس أنها تخص أشخاصاً، بغض النظر عن عددهم، وأن هؤلاء الأشخاص لا ينتمون إلى الوسط التجاري العريق، وأن ما عملوه أضر بالبلاد؛ ولهذا يجب ألا تأخذ أحداً بهم الرحمة والشفقة.. وانطلاقاً من هذا التشخيص، فإن العلاج كان في اتباع الطريق نصف القانوني الذي اتبع حتى الآن، الذي قام على أساس أن “العقد شريعة المتعاقدين”؛ وبالتالي يجب على كل من وقَّع شيكاً آجلاً أن يدفعه بالكامل، وإذا عجز أحيل إلى الإفلاس.. ومن هذا المنطلق، فإن الإجراءات التي اتبعت كانت تهدف إلى عزل الأشخاص المتسببين في الأزمة وحصرها بهم، وإثبات عدم تأثر الاقتصاد الكويتي بهم وبما عملوه.

ولقد ثبت الآن أن ذلك التشخيص كان خاطئاً؛ وبالتالي فإن العلاج الذي طبق لم يؤدِّ الغرض، ولم يشف المريض، بل زاده سوءاً.

فالأزمة لم تكن أزمة أشخاص، وإنما كانت أزمة نظام اقتصادي كامل مرتبط ببعضه، متأثر بما يحدث في أجزائه وفي أطرافه، وحتى الذين لم يشتركوا في السوق تأثروا بالأجواء المتفائلة التي كانت تسيطر على البلاد، فتصرفوا على هذا الأساس، سواء في التعامل بالنقد الأجنبي أو التجارة العادية والاستيراد أو في الدخول في مشروعات ليس لها جدوى اقتصادية واضحة، ولكن التفاؤل جعل صورتها أكثر إغراء.

ولهذا نرى آثار الأزمة تتشعب وتمتد، وتؤثر على القاصي والداني، كل هذا عائد أساساً إلى الخطأ في التشخيص.

ولقد كان التشخيص المبدئي صحيحاً، وكان الاتفاق على تخفيض المديونية بقانون هو الأسلوب الوحيد الذي كان سيقضي على الأزمة في مهدها، وكان مجلس الوزراء على وشك إقرار ذلك الحل في سبتمبر 1982م.

ثم كان ما كان من تغير الاتجاه، اعتماداً على منطلقات نظرية وفقهية ثبت الآن أنها كانت بعيدة عن القدرة على حل الأزمة، وأنها كلفت الدولة المال الكثير الذي لم يكن له أثر في تخفيف الديون، وحملت البلاد ما لا طاقة لها به، وما لم يكن هناك داعٍ لإثقال كاهل البلاد به لو كان التشخيص للأزمة تشخيصاً واقعياً منطلقاً من حقائق الحياة البديهية.

وبعد.. إن من العبث الآن القول بأننا حذرنا ونصحنا وقلنا، فبطبيعة الحال المتفرج غير اللاعب الذي تكتوي أصابعه بالنار، ولكن لا بد من إبداء ملاحظات أساسية على إدارة الأزمة منذ بدايتها في سبتمبر 1982م حيث وصلت إلى طريق مسدود.

وأول هذه الملاحظات هو عدم وجود الخبراء المختصين الذين كان يمكن لرأيهم أن يساعد على التشخيص الصحيح للأزمة، ولقد سمع الكاتب رأياً من أحد المسؤولين الإنجليز مفاده: إن هذه الأزمة لو حصلت في بورصة لندن وهي أعرق بورصة في العالم؛ لكانوا استدعوا خبراء من بورصة شيكاغو حيث ابتدأت “شيكات المدد” أو البيع الآجل، وحيث يوجد جهابذة اللعبة وخبراؤها الحقيقيون الذين مروا بأزمات وأزمات لا تختلف كثيراً عن الأزمة الكويتية، وكان وجود هؤلاء الخبراء سيكون بمثابة محطة استماع وتحليل وإبداء الرأي في الحلول الكويتية المختلفة التي تتمخض عنها الاجتهادات الكويتية البحتة، ولم يكن هذا سيضير الحكومة، بل إنه كان سيعينها عوناً كبيراً، بحكم أن رأي أولئك الخبراء هو رأي محايد غير متأثر بالعلاقات الاجتماعية في الكويت، وليس له علاقة بالروابط العائلية مهما كان شكلها؛ لأن مثل هذه المشاعر لا تؤدي أي دور، ويجب ألا تؤدي أي دور في وصف العلاج لأزمة طاحنة كالتي نحن فيها، والخبير الأجنبي البعيد عن المعطيات المحلية أقدر على إبداء الرأي المحايد من أي شخص محلي سواء كان مسؤولاً أو غير مسؤول، فنحن جميعاً بشر من لحم ودم، ولنا أفكارنا وآراؤنا وتعصباتنا سواء كانت تعصبات صحيحة أو خاطئة، ولكن هذه هي حقائق الحياة اليومية، ولن ينفع الهروب منها أو الادعاء بعدم وجودها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن وجود لجنة خبراء محايدة كان سيساعد الحكومة على اختيار مدى فعالية الحلول وهي لا تزال في الإطار النظري، وكان سيساعد على التقييم السريع لمدى فعالية التطبيق واستخلاص النتائج السريعة من ذلك التطبيق، بحيث لا نجد أنفسنا مضطرين بين كل ثلاثة أشهر أو أكثر إلى التفكير في تعديل القانون، أو إضافة مواد جديدة إليه، أو إصدار قانون جديد، إذ من الواضح أنه كلما صدر قانون ما؛ اكتشفنا قصوراً معيناً في بعض أجزائه أو بعض مواده، وهذا كله عائد إلى الخطأ في تشخيص الأزمة.

والملاحظة الثانية هي القصور النوعي في الأجهزة التي تمخضت عنها الأزمة، وعلى الأخص المؤسسة التي أوجدها القانون (59/ 82)، فهذه المؤسسة منوط بها إدارة أملاك موجودات يقدر ثمنها حتى في أسوأ الحالات بعدة بلايين من الدنانير، وبينما نجد أن أي شركة استثمار أو شركة عقار لا بد لها من عدد من الخبراء القانونيين والاقتصاديين والمحاسبين وهي تدير جزءاً بسيطاً من الموجودات بالمقارنة مع المؤسسة، فإن جهاز المؤسسة لا يزال يحبو في مراحله الأولى، وسيمضي وقت طويل قبل أن يتواجد فيه الحد الأدنى من هؤلاء المختصين الذين سيتولون الإشراف على إدارة أموال وأملاك المحالين إلى المؤسسة، حتى ولو تولى الإشراف المباشر مؤسسات تجارية قائمة مثل شركات الاستثمار الحالية أو بيت التمويل والبنك العقاري، أما غير الموجود في المؤسسة يجعل شعر الرأس يزيد شيباً!

كما أن اقتصار عمل هيئة التحكيم على الأعضاء الحاليين وضمن مؤسسة واحدة، ألقى على كاهل الأعضاء عبئاً تنوء به الجبال، والحق يقال.. فإن الهيئة قامت بأكثر مما كان متوقعاً منها، ولكن يجب ألا يُطلب منها ما هو فوق طاقة البشر، وكان لا بد من وجود دوائر متفرعة عنها تنظر في الأمور، وتبت في القضايا، ولقد اكتشف المسؤولون الآن أنه كان يجب أن تعطى الهيئة صلاحية التخفيض في المديونية، بعد أن اتضح لهم الآن أن عدداً كبيراً من الناس لم يكن ممتنعاً عن الدفع سعياً وراء قصد خبيث، وإنما لأنه عاجز بالفعل عن الدفع إذا لم يخفض دائنوه من دينهم عليه.

أما شركة المقاصة، فإن أول شيء يجب القيام به هو تغيير اسمها؛ إذ إن عملها الحالي لا علاقة له بالمقاصة وبالهدف الذي أنشئت من أجله، فلقد حيل بينها وبين إجراء التقاصص؛ خوفاً من التأثير على حقوق الغير، وبذلك اقتصر عملها على الأعمال الدفترية، ولم تسنح لها الفرصة لإجراء التسويات، ولنتصور مثلاً ماذا كان سيحدث لو ربطت الحكومة بين شراء الأسهم الكويتية، وتسوية البائع لبعض التزاماته المقيدة لدى شركة المقاصة؟ ألم يكن هذا سيساهم في تسوية كثير من الالتزامات ويؤدي إلى استخدام الأموال التي ضخَّتها الدولة بقصد حماية الأسهم الكويتية (ولم تنجح في ذلك)، استعمال تلك الأموال في حل جزء من الأزمة؟

الملاحظة الثالثة هي أن دعم الأسهم الكويتية لم يؤدِّ الغرض المطلوب منه، وإنما ساعد على إخفاء الحقيقة المرة، وأوجد شعوراً بالأمان الزائف، بينما كان سقوط الأسهم الكويتية (الحتمي في مثل هذه الأحوال) كان سيكشف إلى أي مدى وصلت الأزمة، وكيف أنها طاولت الجميع بما في ذلك أولئك العقلاء الذين اشتروا الأسهم الكويتية بقصد الاستثمار فقط وليس بقصد المضاربة، ولهذا يمكن القول الآن: إن دعم الأسهم الكويتية أضاع على الحكومة مبلغاً كبيراً من المال كان سيساعد على تخفيف آثار الأزمة، لو أنه وجه وجهة أخرى.

وكان الأولى بالحكومة أن تغلق البورصة، وتوقف التعامل في الأسهم لفترة محددة، إلى أن يتم احتواء وعلاج الأزمة، وكان هذا الإجراء سيوقف أسعار الأسهم الكويتية عند مستوى معين منذ سبتمبر 1982م؛ مما يسمح بعد ذلك باستعمالها كأداة دفع عينية، وربما كان من الضروري أيضاً إيقاف التعامل في الأسهم الخليجية كذلك، واستعمالها فيما بعد كأداة دفع، وعلى كلٍّ؛ فإن هذه هي تخيلات فات أوانها الآن.

أما عن صندوق صغار المستثمرين، فإن ما دفعته الدولة من أموال لم يؤدِّ إلى حل الجزء الأكبر من الأزمة كما تصور الكثيرون في حينه، فالجزء الأكبر من الأزمة لا علاقة له بالعدد، وإنما أساسه النوع، وصغار المستثمرين أخرجتهم الدولة من المعمعة عن طريق الصندوق حتى ترتاح سياسياً، ولكنها لا تزال تواجه المشكلة الأكبر التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وهي تخضع للتجارب في قانون تلو القانون.

Comments are closed.