تمر الأمة العربية في ظروف حالكة، وتتعرض لمخططات تستهدف كيانها وثرواتها القومية، ولا يوجد في هذا الأمر جديد، فالمخططات هذه بدأت منذ أوائل هذا القرن حين صدر تقرير يحمل اسم المستر بانرمان، وهو أحد رؤساء الحكومة البريطانيين من حزب الأحرار عام 1907م، وفيه تحدث التقرير عن كيفية الحفاظ على الإمبراطوريات الأوروبية القائمة حينذاك والتي خلفتها الآن الولايات المتحدة.
وفي ذلك التقرير، وضع المفكرون الأوروبيون من عدة دول أوروبية خططاً لإضعاف المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، والتي وجدوا فيها الخطر الأساسي على تلك الإمبراطورية، وذلك عن طريق فصلها جغرافياً (وهذا حدث بقيام “إسرائيل”)، وعن طريق تشجيع الأقليات والطوائف فيها لاكتساب كيانات محلية خاصة (وهذا ما نشهده الآن)، وعن طريق تسخير مناهج التعليم وتحويرها وإضعاف اللغة العربية؛ وذلك لكي لا تؤدي إلى خلق الشعور بالانتماء العربي لدى شعوب هذه المنطقة الممتدة، وإنما يتخرج التلميذ العربي من المدرسة أينما كان بلده وهو ممسوخ مشوش التفكير، مبهم في الانتماء إلى أصله وفصله، بل وأن يعمل الفكر الأوروبي على طمس الشخصية العربية لدى المثقفين العرب؛ فيصبح تفكيرهم أوروبياً، وينظرون إلى مشكلاتهم هم بمنظار غربي (ونظرة إلى تهافت الآباء والأمهات العرب المقتدرين على تلقين أبنائهم تعليماً أجنبياً، توضح مدى نجاح ذلك المخطط الرهيب).
وإذا جئنا من بداية القرن إلى العقد السبعين، وتفحصنا ما كتبه هنري كيسنجر، فيلسوف الاستعمار الجديد، نجد في مذكراته التي نشرها في السبعينيات مخططات واضحة لثلم السلاح العربي الجديد؛ وهو النفط، وإفراغه من أي محتوى تهديدي، وقد طلب كيسنجر عشر سنوات لتحقيق ذلك اعتباراً من عام 1972م حينما استعمل النفط كسلاح، وها نحن نرى نجاحه الباهر، حيث أصبح الغرب يهددنا نحن باستعمال سلاحنا ضدنا وذلك بعدم شرائه، وليس هناك داعٍ لتنبيه القارئ الفطين – ومعظم القراء من هذا النوع – إلى أن الغرب استعمل في سبيل تحقيق هذا الهدف بعض العرب.
وقد أوضح كيسنجر أيضاً أن الغرب يحتاج إلى خمس سنوات أخرى كي يفرّغ الأرصدة المالية العربية من محتواها، فلا تعود هي سلاحاً أيضاً، وقد تحقق ذلك بفترة تقل كثيراً عن خمس سنوات، فالحرب العراقية الإيرانية أنهكت الدولتين، وأنهكت معهما أرصدتهما المالية، وأضعفت الأرصدة المالية للدول المجاورة لهما كذلك، وستضعفها أكثر في موضوع تعويضات الحرب، وكل هذا ذهب في شراء أسلحة تدمير في ثوان معدودات، بل إننا بددنا الملايين لشراء أسلحة لا بد لاستعمالها من وجود الأمريكيين أنفسهم، فكأننا سهلنا للأمريكيين تواجداً عسكرياً على أراضينا، وقمنا نحن بتمويل هذا التواجد ودفع ثمنه، بل وزدنا على ذلك بأن كثفنا من تعاملنا التجاري مع الولايات المتحدة بحيث أتحنا لها استعادة بلايين النفط وسهلنا لها نتيجة لذلك إمداد “إسرائيل” نفسها بهذا المال، على شكل أسلحة مجانية.
وسيذكر التاريخ هذه الحقبة كإحدى العجائب التاريخية، مردداً مع المتنبي: “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”!
وأما ما بقي من هذا المال فهو الآن سجين في البنوك الأمريكية لا نستطيع له حراكاً!
والآن.. نحن العرب أصبحنا في خطر عظيم جئنا به نحن على أنفسنا، وذلك أن الطبيعة تكره الفراغ، ولهذا فإنها لا تسمح باستمراره، ولا بد من ظهور قوة تملأ الفراغ، وقد ظهرت هذه القوة الآن في الحدود الشرقية للأمة العربية، ولا يعلم إلا الله ما تطلعات هذه القوة، وما مخططاتها؟ فهناك ما يسمى منطق الانتصار الذي يخلق واقعاً جديداً، ويفتح آفاقاً جديدة للمنتصر، قد لا تكون في حسبانه قبل أن ينتصر.
أما الحدود الوسطى للأمة العربية، فإن بها قوة “إسرائيل” تسرح وتمرح دون أن يجرؤ أحد على مجابهتها بالفعل لا بالكلام، وذلك بسبب الفرقة بين المواجهة العربية وعدم قدرتها على مجاراة التقدم التقني “الإسرائيلي”؛ ولهذا فإن “إسرائيل” سوف تضم الضفة الغربية وغزة وتصل إلى الليطاني في جنوب لبنان بعد أن تجد الوسيلة المناسبة لتهجير السكان الفلسطينيين مما تبقى من فلسطين.
وفي الحدود الغربية للأمة العربية يقوم العرب بأنفسهم بمحاربة بعضهم دون حاجة إلى توجيه أجنبي، وبهدف خلق كيانات هلامية جديدة.
المتشائم يقول: إنه عصر الانحطاط العربي، والمتفائل يقول: إن المنطقة العربية كانت دائماً مسرحاً للحروب والاقتتال طوال حقب التاريخ، فهي مهد الأديان والحضارات، وكل ما في الأمر من اختلاف الآن، هو أن الاتصالات الحديثة تجعلنا نعيش الأحداث في وقتها، بينما كان أسلافنا يسمعون عنها بعد حدوثها بأيام أو أشهر، ولهذا فلا يوجد جديد.
في هذا الجو الكئيب، تداعى عدد من المفكرين العرب للالتقاء والتشاور والبحث في شؤون هذه الأمة، فوجَّه الأمير الحسن بن طلال، ولي العهد الأردني، دعوة إلى نخبة من رجال الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع العرب، للالتقاء في مدينة العقبة عام 1980م، ونتج عن ذلك اللقاء إنشاء منظمة عربية خاصة هي منتدى الفكر العربي، قامت معتمدة على اشتراكات وتبرعات أعضائها، وأخذت على عاتقها تدارس الشؤون العربية والدخول في حوارات متعددة مع الأوروبيين والأفارقة والآسيويين، وتوجهت إلى مخاطبة الرأي العام الأمريكي، وأدى الأمير الحسن دوراً ريادياً في هذا المجهود العربي اليتيم، ولا غرابة في ذلك، فالذين عرفوا الأمير الحسن وجدوا فيه مفخرة للعرب من حيث علمه وثقافته وقدرته وتواضعه.
وبدأ المنتدى في تنظيم لقاءات لشرح وجهة النظر العربية التي لا يتبناها الآن أحد، فالعرب مشغولون بلعبة جديدة اسمها الكيانات الإقليمية، ولا يوجد وقت لإعطائه للقضايا العربية القومية.
وأنا أتوجه لأصحاب المال الميسورين من العرب أن يهبوا لتدعيم هذا الجهد الرائع، ومده بالقليل من المال، الذي سيولد الكثير من الجهد والذي لا بد من بذله لطرح قضايانا على الرأي العام الدولي ومحاولة كسب الأصدقاء، والتعاطف معنا، ولعل هذا أضعف الإيمان.
ذلك أننا نكاد نفقد كل ما تبقى لنا من أسلحة، ولقد تعرضنا لغسيل مخ عجيب ولتخدير أعجب؛ فلم نعد نشعر بهول ما يجري حولنا، وفي منطقة الخليج العربي بلغ تخديرنا مبلغاً لا شبيه له بالتاريخ، فسلب المال أبصارنا عن رؤية واستيعاب مغزى التطورات الجديدة في منطقتنا، بحيث لم يبقَ أمامنا إلا التوجه لعدونا الأساسي – الولايات المتحدة – كي تحمينا.
أنا أدعو مخلصاً الميسورين – وما أكثرهم – التبرع العاجل لدعم هذا المجهود الرائد المتمثل في منتدى الفكر العربي، حيث يولي المفكرون العرب قضايا أمتهم وهمومها كل جهدهم، ويساهمون مع أولي الأمر في تبيان الطريق المستقيم.
وليس أقل من تدارس الأوضاع من قبل المفكرين في غياب الإرادة السياسية الواعية.
وإذا كان لي أن أرجع إلى كتابات سابقة، فإنني أقول: إن هذا هو الاختيار الحقيقي للكرم العربي بعيداً عن الولائم والأكل، فالتبرع من أجل أن يقف منتدى الفكر العربي على قدميه، مستقلاً وغير خاضع للتأثيرات الرسمية، هو من معالم الكرم العربي الجديدة.
ولماذا نختلف نحن عن بقية شعوب العالم الميسورة حيث يتبرع الأغنياء بمالهم، لخدمة قضايا أمتهم، فيساهمون بمجهودات كبيرة، ويقدمون التبرع كقربان لتطهير المال نفسه؟