January 29, 1983

يبدو أننا لا بد أن نعود إلى التاريخ العربي لنرى أن عصرنا هذا يشبه إلى حد كبير أواخر العصر العباسي قبل اجتياح التتار لما نعرفه الآن بالوطن العربي، والفرق هو أن التتار هذه المرة موجودون بين ظهرانينا، سواء كانوا ممثلين بـ”إسرائيل” أو ببعض العرب الذين يقومون بنفس ما قام به التتار في تمزق وتدمير الأمة العربية.

والتاريخ يقول لنا: إن التتار لم يقفوا عند حدهم إلا حين تصدت لهم مصر ودحرتهم على أعقابهم في عين جالوت بفلسطين.

ولعل هذا الشعور الخفي والإحساس الدفين هو أساس الظاهرة المنتشرة الآن انتشاراً سريعاً بين الناس، وكأنهم يكتشفون لأول مرة أنهم يحبون مصر، وأنهم يشعرون بالضياع بدونها!

وهذا هو أيضاً تفسير الازدحام الملحوظ على الذهاب إلى مصر لإعادة اكتشافها، والرغبة الشديدة في تملك شقة هناك، لعل في هذا العمل رباطاً وثيقاً يشد الناس إلى مصر، والحقيقة الساطعة الآن هي أن مصر هي العروبة، وأن كل ما حصل بينها وبين بقية العرب لم ينحرف بها عن مسيرتها الثابتة، وأن الأخطار المحدقة الآن بالأمة العربية لا يمكن مواجهتها بدون مصر.

أما الذين يتفلسفون حول الموعد الرسمي لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر فلا شك أنهم يعيشون بمعزل عن إحساس الناس العاديين ولا يشعرون بما يشعر به هؤلاء الناس.

فالعرب على شكل الجماهير قد قالت رأيها في هذا الموضوع وصوتت لصالح مصر عن طريق هذا السيل من الناس الذين يتوافدون على مصر ويعودون منها بأطيب المشاعر والذكريات.. كل هذا الكلام عاطفي، ولا ضير من العاطفة، ولا يجب الخجل منها، فبدونها يصبح الناس جماداً لا حياة فيهم، ولكن خطورة الوضع العربي تتطلب ترجمة العاطفة الفياضة إلى عمل ملموس ومفيد.

ولعل الدعوة التي طرحتها الصحافة المصرية من أجل التبرع للمساهمة في تخفيف عبء الديون على مصر، تمثل أسلوباً عملياً يمكن للجماهير العربية أن تترجم من خلالها شعورها نحو مصر، وأن يكون تعبيراً من هذه الجماهير وحكماً منها على ما يدور في الساحة العربية بدون وجود مصر.

الدعوة إلى المساهمة في التبرع لتخفيف عبء ديون مصر هي دعوة لجماهير العرب كي تصرخ بأعلى صوتها، وتصوت بالغالي مما تملك.. كفى ضياعاً.. وكفى استهتاراً بمصير هذه الأمة.. والمواطن العادي الذي قهرته أنظمة القمع والظلم في بلاد العروبة يستطيع أن يعبر عن شعوره عن طريق هذه الدعوة النبيلة، والتبرع بالغالي والثمين من أجل مصر، إنما هو دعم لها ودعم للعروبة، ودعوة لها كي تسترد مكانتها القيادية بدون إضاعة وقت في الشكليات، لعل في عودتها إنقاذاً لهذه الأمة.

ودعم مصر لا يقتصر على التبرع المباشر، ولكنه يمتد إلى المساهمة الفعالة في تنمية الاقتصاد المصري عن طريق ذهاب رأس المال العربي إلى مصر، والاستثمار فيها، ويجري الآن تجميع طاقات عربية متعددة لهذا الغرض النبيل.

والمهم في الأمر ليس في النوايا الحسنة وحدها، وإنما في التعبير العملي عنها، وفي توقيت هذا التعبير.

ويجب أن يتذكر الجميع أن التبرع لهذا الغرض السامي إنما يخدم مصلحة عليا تفوق المدى القصير، وتمتد لتشكل تأميناً مستقبلياً للعرب، وحتى الذين لا يتفقون مع التوجه الحالي للسياسة المصرية عليهم أن يتذكروا أنه توجه حسن النية، وأنه اجتهاد مصري بحت، وإذا أرادوا أن يؤثروا فيه، فإن الميدان مفتوح لهم في القاهرة.

ولقد أشار الكاتب يومياً إلى أن معركة العروبة يجب أن تبدأ باسترداد مصر، إلا أنه اتضح أن العروبة لم تفقد مصر في يوم من الأيام، وأن مصر باقية على العهد ما بقي الزمان، وأن غيرها هو المتنكر للعروبة.

والذين يرغبون في التصويت لصالح مصر، عليهم الآن أن يصوتوا من خلال جيوبهم، وسيكون لهذا التصويت معنى أعمق في الكويت وهي في خضم أزمة مالية معقدة وطويلة.

Comments are closed.