June 17, 1982

الإعلام الغربي استطاع الاستيلاء على تفكيرنا كلية، حتى صرنا نردد كالببغاء كل ما يبتغيه، الإعلام الغربي يستخدم وسائل ذكية كغسيل الدماغ؛ حيث يؤدي تركيزه المكثف والمتواصل إلى إقناعنا بحدوث أشياء لم تحدث، ولكنها تحدث بمجرد تسليمنا بأنها حدثت، وفي الأمثال الكويتية يوجد هذا الأسلوب المعروف بفلسفة “طاح.. طاح.. إلى أن يطيح”، ويعتمد هذا الأسلوب على الإيحاء المتواصل الذي ينتهي إلى الإقناع بالاستسلام والسقوط.

وهذا الأسلوب الذكي يتبع الآن في معركة فلسطين، والمعركة هي معركة فلسطين وليست معركة استعادة الأراضي المحتلة أو إزالة آثار العدوان أو قضية الشرق الأوسط أو احتلال الجنوب اللبناني، فهذه المصطلحات هي نتيجة الإعلام الغربي الذكي الذي نجح خلال الثلاثين عاماً وبتوجيه يهودي بالطبع في أن يزيل من مفردات كلماتنا “قضية فلسطين”، وهو ما كنا نعرفه في الخمسينيات، وصرنا نردد بلادة ما قرره هذا الإعلام الذكي.

ولكن يوجد بين المعلقين الغربيين أناس يؤمنون بالحق والعدالة ويؤيدون القضايا العربية رغم أنف العرب أنفسهم، فالعرب في تصرفاتهم لم يبقوا لأنفسهم صديقاً، ومن هؤلاء المعلقين المنصفين الذين تعرفت عليهم منذ أكثر من عشر سنوات السيد دافيد هيرست، مراسل صحيفة “الجارديان” اللندنية، وهو من المتعاطفين مع القضايا العربية من منطق الحق وليس من منطق المواقف الرسمية، ولهذا فهو ممنوع من دخول البلاد العربية الرئيسة كمصر وسورية والعراق، وأضيفت إليها أخيراً إيران حين عالج أمورها الراهنة بنفس منطق الحق؛ ولهذا فإن أوراق اعتماده تؤكد حياده وانحيازه للحق فقط.

وفي غمرة الأنباء المتتالية حول معركة فلسطين التي يخوضها الفلسطينيون واللبنانيون ضد اليهود، يبرز دافيد هيرست كمعلق منصف لا ينخدع بالحركات المسرحية “الإسرائيلية” كاحتلال بعبدا، وخلق الصداقات مع المليشيات اللبنانية المتعاطفة معها.

وهي الموضوعات التي تبرزها الدعاية “الإسرائيلية” والإعلام الغربي، ولكن دافيد هيرست يركز في مقاله الذي نشرت جريدة “السياسة” ترجمة له يوم الثلاثاء الماضي، على استمرار “إسرائيل” في التعتيم على عدد قتلاها وجرحاها وعتادها وآلياتها، ويركز على استمرار القتال في مدن الجنوب اللبناني في صور وصيدا وعلى السواحل اللبنانية في الدامور، وعلى فشل “الإسرائيليين” في إقامة رأس جسر في خلدة، كما يبرز بصورة منطقية أن انتشار الجيش “الإسرائيلي” في لبنان يعرض خطوطه التموينية لحرب العصابات، ولا يفوته أن يذكر صلاحية التراب اللبناني الجلي لهذا النوع من الحروب، كما يشير بصورة واضحة جلية إلى بسالة وبطولة المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين؛ مما يعيد بعض عناصر الكرامة للوجه العربي الذي فقد كرامته، ويذكر كذلك استعداد الشباب الفلسطيني للموت والترحيب به، وهو أمر غاية في الأهمية، فليس أسهل من غزو الجيوش واندفاعها لاحتلال أراضٍ شاسعة، ولكن ليس أصعب عليها من البقاء هناك والاحتفاظ بالمواقع، إذا واجهت مقاومة وطنية مبعثها استعداد الناس للذود عن أراضيهم ووطنهم، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بالدفاع عن وجودهم كشعب.

ويمضي دافيد هيرست فيشير إلى أن الاحتلال “الإسرائيلي” لأكثر من نصف لبنان أدى إلى وجود تلاحم بين الفلسطينيين والقوات اللبنانية الوطنية ومقاتلي حركة أمل، وهذه العناصر الثلاثة كانت إلى وقت قريب تتقاتل مع بعضها من باب التسلية ومن باب تنفيذ مخططات خارجية عنها.

كما يشير في نهاية الأمر إلى أن استعداد الفلسطينيين للموت هو العنصر الجديد البارز في هذه الحرب، وهو الذي جعل “الإسرائيليين” يترددون في اقتحام بيروت نفسها، إذ إن هذا سيكلفهم غالياً في الأرواح، وهو ما لا يريدونه كما صرح بذلك وزير دفاعهم.

هذا التحليل المنصف الواقعي، ربما كان من النوع الذي لا يحلو مذاقه لبعض الحكومات العربية التي اعتقد أنها تخلصت من الفلسطينيين كقوة عسكرية، وثبت الآن أنهم أذاقوا “إسرائيل” طعم الدواء الذي تفهمه، وهو رد الصاع صاعين، وربما كان هذا محرجاً للجيوش العربية، بجنرالاتها وفرقائها وبزاتها الطاووسية، فهذه الجيوش لم تستطع الصمود طويلاً أمام الجيش “الإسرائيلي”.

وبعد.. يجب العودة إلى طرح موضوع قضية فلسطين، ويجب أن نزيل من قاموسنا اللفظي كل العبارات المطاطة الممجوجة حول إزالة آثار العدوان، واستعادة الأراضي المحتلة، وغير ذلك من التعبيرات الانهزامية.

وليعرف الفلسطينيون أن قضيتهم لن يعيدها إلى الوجود إلا الدم الفلسطيني.

كما أن على الفلسطينيين أن يفخروا بما حققوه في حربهم مع اليهود، فهذه حرب يبدو أنها ستستمر إلى النهاية، وسيضاف إلى قضية فلسطين، قضية لبنان، وإذا كان بعض اللبنانيين قد رحبوا بالقوات “الإسرائيلية” نتيجة ما عانوه من فوضى كانت ضاربة أطنابها في لبنان؛ فإنهم سيندمون قريباً جداً، فالقوات “الإسرائيلية” دخلت الآن معاقل الكتائب في بيت مري وبرمانه وظهور الشوير وتتجه إلى مرتفعات صنين، وربما طاب لها المقام في لبنان، فأصبحت ضيفاً ثقيلاً حتى على الذين رحبوا بقدومها في بادئ الأمر، وهل ننسى كيف رحبت الكتائب بالقوات السورية في أول الأمر، ثم أصبحت أول المطالبين بجلائها؟! ذلك أن تطور الأحداث في الميدان، يفرز منطقاً جديداً، ويولد سياسات جديدة قد لا تكون في الحسبان، ويجب ألا ينسى مسيحيو لبنان أن عداء اليهود لهم أقوى من عدائهم للمسلمين، وأن لبنان مهما كان شكله وحجمه سيبقى يهدد “إسرائيل” اقتصادياً وسياحياً، وهو أمر غير مرغوب به من قبلها.

وبعد.. لقد كتب الفلسطينيون بدمائهم حقهم في الحياة وفي وطن خاص بهم في فلسطين، نفسها، ولا يوجد طريق آخر، وعليهم الآن أن يسعوا مع الساعين إلى إعادة مصر إلى صف القيادة العربية، فليس في منطقتنا غير مصر، قادر على التصدي لهذا العدو الشرس، ومصر التي أوقفت هجمة المغول الهمجية وصدتهم على أعقابهم، وقضت على الاستعمار الصليبي وأخرجته من فلسطين، هي المؤهلة الوحيدة لإيقاف اليهود عند حدهم، وإذا كانت قد اختارت طريقاً خاصاً بها، فإنها تعيد النظر الآن في حساباتها، والشارع المصري هو الوحيد في البلدان العربية الذي تحرك ضميره لما يحدث في لبنان، ومصر تبقى دائماً أكبر من الخلافات الهامشية، وأكرم في ودها وخصامها.

Comments are closed.