April 8, 1983

أود أن أطرح علناً ما كنت ولا أزال أردده بشكل خاص حول مشكلات الاستثمار في مصر، وهذا الطرح يأتي من شخص محب لمصر، ومقدر لحجمها الإستراتيجي في الوطن العربي، ولقد قيل: “صديقك من صدَقك لا من صدَّقك”، أما سبب طرح هذه الآراء في العلن وليس عن طريق مذكرة خاصة تُكتب على شكل رسالة ثم يتم توصيلها عن طريق الواسطة وربما قُرئت وفي أغلب الأحيان لا تُقرأ؛ فهو أن الكاتب سبق وأن رفع العديد من المذكرات مضمناً إياها خبرته الخاصة في شؤون الاستثمار في مصر، وهي خبرة بدأت منذ عام 1973م وقبل حرب أكتوبر، واستمرت ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، ولم يسفر ذلك الدرب عن نتيجة، ولربما حققت الصحافة الحرة ما عجزت عن تحقيقه الوسائل الخاصة.

كما أن منطلق هذا الطرح الصريح هو رغبتي ورغبة الكثيرين من محبي مصر في فتح حوار موضوعي حول الاستثمار في مصر، ودور رأس المال العربي الخاص فيه، وهو دور يمكن له أن ينمو ويؤثر تأثيراً كبيراً في تنمية مصر إذا عولج موضوع الاستثمار بإيجابية، وواجهت السلطة في مصر ما يقوله المستثمرون العرب الهادفون إلى الاستثمار الإنمائي المفيد لمصر ولهم، ولا بد أن يعرف أولو الأمر في مصر ما يقوله هؤلاء المستثمرون مباشرة وليس عن طريق الموظفين الذين ربما منعتهم قيود وظيفتهم من نقل الصورة الحقيقية، وأول انتقاد يوجَّه للسلطة المختصة بشؤون الاستثمار هو أنها لم تقم في يوم من الأيام بدعوة المستثمرين العرب أنفسهم لسماع آرائهم في التجربة، وقد يبدو هذا غريباً في الوقت الذي عقدت فيه هيئة الاستثمار العشرات من المؤتمرات، ولكن الحقيقة هي أن الذين تمت دعوتهم إليها كانوا في الغالب من الأوروبيين والأمريكيين وحتى اليابانيين، أما العرب فأذكر أنني تلقيت دعوة لحضور مؤتمر خاص بمشكلات المستثمرين في مصر، ولكن الدعوة كانت من جريدة “الفايننشال تايمز”.

وتدل الإحصائيات التي نشرت أخيراً عن حجم الاستثمارات التي تمت في ظل القانون (43) بشأن تشجيع رأس المال العربي والأجنبي؛ أن المصرين استثمروا بنسبة 60%، والعرب بنسبة 30%، والأجانب بنسبة 10% فقط، وليس هذا بمستغرب، فالغرب الصناعي لا يريد مصر الصناعية القوية، وكل من درس التاريخ يذكر أن أوروبا حينما تحالفت ضد محمد علي باشا وهزمته وحجمت مصر كان أول عمل لها هو تفكيك المصانع المصرية!

ولهذا؛ فحبذا لو نظمت هيئة الاستثمار مؤتمراً خاصاً يدعى إليه رجال الأعمال العرب الذين نشطوا في مجال الاستثمارات في مصر ليدلوا بدلوهم، ويبثوا همومهم ويساهموا بخبرتهم الميدانية في تقييم التجربة.

وثاني انتقاد يوجَّه لهيئة الاستثمار هو أنها نسيت الهدف الأصلي من وجودها؛ وهو مساعدة المستثمرين، والعمل على إغراء رأس المال العربي والأجنبي للقدوم إلى مصر ضمن قواعد معروفة ومحددة بالقانون الذي لا يخضع للتغيير المستمر، ولا تقع تفسيراته فريسة الاجتهادات المرحلية قصيرة المدى.. ولكي أفسِّر ما أقصده بالضبط أقول: إن القانون لم ينص على ضرورة وجود نسبة مساهمة مصرية في الشركات التي يرغب رأس المال الوافد في إنشائها ما عدا البنوك التجارية التي حدد القانون ضرورة وجود نسبة 51% مصرية فيها، وهو نص تطبقه معظم البلاد، ولا يمكن أن يعترض عليه أي شخص منصف، ولكن لماذا تفرض هيئة الاستثمار على المستثمر العربي والأجنبي أن يعطي نسبة 40% أو 25% أو أي نسبة أخرى من رؤوس الأموال المصرية إذا أراد إنشاء شركة استثمار عقاري أو صناعي أو لتوظيف الأموال؟ أليس الهدف هو دعوة رأس المال الخارجي إلى القدوم إلى مصر وتشجيعه على الاستثمار فيها؟ ألا تستطيع الهيئة أن تمنح رأس المال المصري أي شركات يريد إنشاءها؟ والقصد من هذا التساؤل ليس الاعتراض على مساهمة المصريين في شركات الاستثمار التي ينشئها العرب والأجانب الآخرون، ولكن الاعتراض هو في تحديد نسبة مقيدة قد لا يستطيع صاحب المشروع تحقيقها، والتوصل إليها، نتيجة اختلاف نظرته وظروفه عن ظروف ونظرة المستثمر المصري العادي، والحل هو في عدم تحديد أي نسبة وترك الأمور على طبيعتها، بحيث تضم هذه الشركات أي نسبة ممكنة من المساهمة المصرية مهما علت أو نقصت، والغريب أن القانون نفسه لا يحدِّد نسباً من هذا النوع، ولكن التطبيق في هيئة الاستثمار يفرض تحديد هذه النسبة، وإلا امتنعت الهيئة عن إعطاء الرخصة، وفي رأينا أن هذا أمر مقيد لا داعي له، وقد قيل في تبريره أن الهيئة حريصة على ألا يتم تحويل جميع ما يحققه المشروع بعد انتهائه من أرباح إلى الخارج، وإنما يتم تحويل النسبة غير المصرية فقط، وبذلك لا يتأثر ميزان المدفوعات كثيراً! وهذا كلام نظري، فالمستثمر في مصر لا يفكر في إعادة تصدير ماله بقدر ما يفكر في وجود فرص جديدة يستثمر بها هذا المال، فالمال المستثمَر حين يغادر موطنه الأصلي فإنه يهدف أصلاً إلى الاستقرار في أماكن جيدة للاستثمار خارج هذا الموطن، وإلى تدوير نفسه بانتظام ليصبح في نهاية الأمر رأسمالاً وطنياً، وهو ما حدث في الاستثمارات الأوروبية التي بنت أمريكا وتأمركت.

أما الانتقاد الثالث الذي يوجه لسلطات الاستثمار فهو أن وجود هيئة الاستثمار كان بغرض تسهيل عمل المستثمر، وتجنبه رحلات العذاب في وزارات ومصالح الدولة المختلفة، ولهذا ضم مجلس إدارة هيئة الاستثمار نفسها ممثلين رئيسين، بل هم في بعض الأحيان رؤساء الأجهزة والمصالح التي قد يحتاج المستثمر لمراجعتها كوزارة المالية والإسكان والصناعة والسياحة وغيرها، ووجودهم في مجلس إدارة الهيئة يفترض فيه أن يغني عن مراجعة المصالح الأخرى، ولكن الواقع عكس ذلك، إذ أصبحت الهيئة تشكل عقدة أخرى من العقد التي يواجهها المستثمر لا تختلف عن أي وزارة أخرى من الوزارات، وأؤكد هنا أن الكلام نابع من التجربة المباشرة وليس كلاماً سمعه الكاتب من آخرين، وهو أمر حصل ويحصل رغم ما للكاتب من صلات واسعة ومعارف في كل مكان.

بل إن هذه الوزارات والمصالح عادت أخيراً إلى المطالبة بما كان لها في الأصل من حق الموافقة المسبقة على المشروعات والإعفاءات قبل صدور ترخيص هيئة الاستثمار، وهي الصلاحيات التي تفترض أن تكون الوزارات قد تنازلت عنها لصالح هيئة الاستثمار، وقرأنا أخيراً أن وزارة المالية طلبت أن يُؤخذ رأيها قبل إقرار إعفاءات جمركية، وأن وزارة التخطيط ترى عدم الموافقة على أي مشروع قبل أخذ موافقتها على موقع المشروع من الأولويات الإنمائية.. وهكذا.. إلى أن تصبح هيئة الاستثمار مجرد جهاز لتجميع الطلبات ثم إعادة توزيعها على الوزارات المختلفة.

والانتقاد الرابع الذي يوجه لهيئة الاستثمار هو أنها تؤدي دور الحكم والقاضي في الخلافات المستمرة التي تحصل بين المستثمرين العرب والأجانب وبين الجهات الرسمية كالمحافظات وديوان المحاسبة والرقابة الإدارية والوزارات الأخرى، ويجد المستثمر نفسه في كثير من الأحيان حائراً أمام قانون صريح في نصوصه واضح في معناه، ولكن الجهات الرسمية المصرية تمتنع عن تطبيقه أو تحاول التملص من ذلك عن طريق إجراءات تتفنن الإدارة المصرية في خلقها، وهي بلا شك سيدة من خلق هذه الإجراءات! ولدى الكاتب أمثلة كثيرة على ذلك، وخاصة أثناء إدارته لعمل المجموعة الاستثمارية العقارية الكويتية طيلة سبع سنوات، كما أن هناك العديد من المشروعات المعطلة الآن بسبب خلاف بين الشركاء المصريين والأجانب أو بسبب سوء الإدارة أو بسبب تناقص السيولة، ولا توجد سلطة قادرة على حل المشكلات التي تواجه هذه المشروعات، مع ما يسبب ذلك من خسارة مستمرة للاقتصاد المصري.

وهذه الانتقادات العامة تضم تحت إطارها أموراً تفصيلية ليس هنا مجال لذكرها، وتبقى أمور أخرى لا تقل أهمية، وهي تتعلق بانعكاس التوجه السياسي للدولة على معاملة هيئة الاستثمار للمستثمرين، وهذا أمر طبيعي.. فحين تأزمت العلاقات المصرية العربية شعر المستثمرون بذبذبات الأزمة قبل غيرهم، وأخذ هذا أشكالاً متعددة من العقبات والعراقيل التي يصعب تحديدها بالضبط، ولكن حصيلتها تؤدي إلى توقف النشاط أو على الأقل تجميده.

وأود هنا أن أشير إلى ظاهرتين غاية في الأهمية لما لهما من تأثير نفسي مباشر على جمهرة المستثمرين.

الأولى تسجيل الشقق السكنية المشتراة بأسماء مشتريها بعد موافقة مجلس الوزراء، وفي هذا لا تختلف مصر عن الكويت أو الأردن أو غيرها من البلاد العربية التي لا تسمح لغير المواطنين بتملك المساكن إلا بموافقة مجلس الوزراء، والفرق بين هذه الدولة وتلك هو الفترة الزمنية التي يستغرقها صدور الموافقة على التسجيل.

ولا شك أن تكهرب الجو السياسي في السنوات الماضية أدى إلى تأخير صدور الموافقات إلى ما لا نهاية، والمؤمل أن تسير الأمور الآن سيراً طبيعياً، ولا يستغرق وقت التسجيل أكثر من وقت الدورة العادية للخطابات الرسمية.

الموضوع الثاني يتعلق بشراء الأراضي، وهذه لا بد لها من الموافقة المسبقة لهيئة الاستثمار قبل إتمام عملية الشراء، وهذا أيضاً يتطلب تقديم تصميم مبدئي للمشروع ودراسة اقتصادية قبل الحصول على الموافقة من قبل الهيئة، وحتى هذه لا تكفي؛ إذ قد تصر الهيئة على إنشاء شركة خاصة بالمشروع العقاري وتحدد حداً أدنى لملكية المصريين فيها، وبعبارة أخرى فإن مجرد السير في هذه الإجراءات من شأنه أن يفقد الراغب في الشراء حماسه من ناحية، وربما يفقده الصفقة نفسها، ويجد المرء نفسه في هذه الحالة أمام فزورة البيضة والدجاجة أيهما جاءت قبل الأخرى؛ أي لا يمكن شراء الأرض بدون وجود شركة ودراسة، ولا يمكن وجود دراسة وشركة بدون شراء الأرض.

والنشاط العقاري هو أول قطاع يجذب المستثمرين العرب على وجه الخصوص، فإذا استقروا فيه تفرعوا بعد ذلك إلى النشاطات الإنتاجية الأخرى.

والمقترح أن يتم الشراء بدون إذن مسبق من هيئة الاستثمار على أن يفرض على المشتري أن يقوم بتطوير وتعمير الأرض خلال فترة زمنية محددة، فإذا لم يقم بتعميرها يتم فرض ضرائب تصاعدية كبيرة عليه، وبذلك تسهل الإجراءات وتحتفظ الدولة بحقها.

وتوجد آراء وموضوعات كثيرة لا حصر لها من شأنها أن تشكل قاعدة انطلاق جديدة لعلاج قضايا الاستثمار، وتسهل تدفق الأموال العربية إلى مصر، وهي تتطلب استعداداً للتفاهم من قبل السلطات المختصة في مصر واستعداداً للتفهم من قبل المستثمرين، وحتى الآن لم أقابل مستثمراً يشكو من نصوص القوانين المصرية، فهي والحق يقال في منتهى الكرم بالمقارنة مع البلاد الأخرى التي تستضيف رؤوس الأموال الأجنبية، ولكن الشكوى هي من عدم تطبيق هذه النصوص أو محاولة تفسيرها تفسيراً يعرقل ولا يسهل فيضيع الوقت وتتراكم الخسارة وتثبط الهمم.

ورغم كل ما سبق ذكره؛ فإن الاستثمار في مصر قد خطا خطوات واسعة، ودخل الكثيرون في خضم الإدارة المصرية وصارعوها ونجحوا في التغلب على أساليبها التقليدية، وأقاموا المشروعات العقارية والصناعية والغذائية، وأنشؤوا البنوك وشركات الاستثمار المختلفة، ومعنى هذا أن مصر لا بد لها أن تتوقع سيلاً منهمراً من رؤوس الأموال العربية الخاصة إذا عالجت ما أثرناه من مشكلات، ومهَّدت الطريق أمام الراغبين في الاستثمار بمصر وما أكثرهم.

ذلك أن المستثمر العربي حين يقصد مصر فإنه لا يقصدها كما يقصد أوروبا وأمريكا، وإنما تخالجه وهو ذاهب إليها أحاسيس قومية ومصيرية تفوق أحاسيسه ورغبته بالكسب المادي السريع الذي يسهل تحقيقه في منطقة الخليج العربي وفي الكويت بالذات، فهو إذاً لا يقصد هناك للمزيد من المال، ولكنه يقصد للاستثمار المنتج الذي يدر في المدى الطويل، ويقصد للإسهام في معركة التنمية في مصر، وهي معركة تزداد شراسة مع تفاقم أعداد المصريين، وهو لا يطلب معاملة خاصة ولا قوانين خاصة، وإنما يطلب أن يطبق القانون المعلن، وأن يجيء تفسيره متوافقاً مع أهدافه وليس متوافقاً مع المزاج الشخصي للموظف الذي يشغل الوظيفة وقت تقديم الطلب، وليس هذا بالكثير، فالذي يعرف مصر عن قرب يعرف أيضاً أن المصري إذا أراد عمل المستحيل فإنه يستطيع عمله بسرعة قياسية حين تتوافر الرغبة في ذلك.

Comments are closed.