November 27, 1982

لفت نظر الكاتب ما جاء في حديث رئيس مجلس الأمة السيد محمد يوسف العدساني مع جريدة “الفايننشال تايمز” من أن ما حدث في سوق المناخ يمكن اعتباره امتداداً للأزمة الاقتصادية التي تمسك بخناق العالم الآن وتشتد قبضتها عليه، بمعنى أن الأسباب التي خلقت الأزمة الكويتية تشبه إلى حد ما الأسباب التي أوجدت الأزمة الاقتصادية العالمية.

وفي نفس الأسبوع، كان هناك حديث في “الهيرالد تريبيون” مع المستشار الألماني السابق هيلموت شميث، أعرب فيه عن تشاؤمه الشديد من الأوضاع الاقتصادية السائدة وازدياد البطالة في دول العالم الصناعي، وخوفه من النتائج السياسية والاجتماعية المترتبة على الأوضاع، وإن ذلك قد يؤدي إلى انفجار هائل.. وقد أشار المستشار شميث في حديثه إلى الأزمة التي تهدد دولاً كالمكسيك والبرازيل ويوغسلافيا والأرجنتين، وهي دول مهددة الآن بالإفلاس رغم توافر وسائل الثروة لديها؛ وذلك بسبب سوء الإدارة الاقتصادية فيها؛ أي أنها في وضع عسير، كما أشار إلى وضع البنوك العالمية والخطورة الشديدة التي ستتعرض لها بسبب إقدامها على تقديم سيل من القروض ميسرة الشروط إلى الدول النامية، وعجز هذه عن السداد.

والحقيقة أن من الصعب أن يلحظ المرء أن أزمة السوق المالية في الكويت تحصل في نفس الوقت الذي يواجه العالم فيه بأجمعه خطر أزمة اقتصادية يفوق ما شهده عام 1930م، وعودة إلى التحليل وفحص المسببات الرئيسة التي قادت البلاد إلى هذا الوضع، فإننا – بعد استبعاد الأسباب المظهرية للأزمة ودور بعض الأفراد فيها – نجد أن السبب الحقيقي والجوهري يكمن في السياسة المالية السهلة والمتساهلة التي سلكتها البلاد خلال عامي 1981 و1982م، وذلك بضخ أموال التثمين المقسطة على سنوات، مرة واحدة وبتقديم تسهيلات ائتمانية كبيرة للبنوك شجعتها بدورها على تقديم تسهيلات مالية كبيرة للناس، تماماً مثل ما عملت البنوك العالمية التي طفحت بالسيولة؛ فقدمت تسهيلات مالية كبيرة للدول النامية وشبه المصنعة فبعثرتها هذه على مشروعات خيالية وخطط طموحه تفوق قدرتها الاستيعابية.

أما في الكويت، فقد أدى ذلك إلى إقدام المواطنين على استغلال هذه التسهيلات بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها وسلوك الطريق الوحيد المفتوح أمامهم؛ وهو المضاربة بالأسهم والعقار في غياب الاستثمار الحقيقي سواء في الداخل أو في الخارج؛ أي أنهم هم أيضاً بعثروا تلك الأموال في صفقات خيالية وبنوا على أساسها قصوراً من الرمال تفوق قدراتهم الحقيقية.

هذا هو السبب الحقيقي والأساسي وراء الأزمة، ويجب ألا يصرف أنظارنا عنه أي سبب آخر، ولهذا فإن مسؤولية الحكومة واضحة وضوع الشمس، فإذا أضفنا إليها القصة المعروفة بالنسبة للشركات المقفلة التي أنشئت بدون ضوابط رغم سلامة القرار نفسه الذي فتح لها الباب، فإننا نجد أن مسؤولية الحكومة كاملة، وتحديدها يقع بالذات على اللجنة الاقتصادية المنبثقة من مجلس الوزراء التي تصدر عنها كل القرارات الاقتصادية المطبقة من قبل وزارات التجارة والصناعة والمالية وغيرها من المؤسسات الاقتصادية، وكان لسيل التصريحات التي صدرت عن أعضائها دور كبير في دخول أعداد كبيرة من الناس سوق المناخ والمضاربة فيه.

وعلى كلٍّ، فليس هذا وقت إلقاء اللوم وتوزيعه، فالوقت الآن هو وقت تضافر الجهود بين الحكومة والمؤسسات الاقتصادية والتجارية والقطاع الخاص المتأثر تأثراً كلياً بالأزمة الراهنة، ولا شك أن تصدي غرفة التجارة والصناعة لذلك يركز من مسؤوليتها القيادية، ويرسخ دورها الرئيس في البلاد.

أما العنتريات التي تتردد الآن وفحواها أن الجميع يجب أن يسددوا ما عليهم من التزامات وإلا فعليهم مواجهة العواقب المترتبة على تصرفاتهم؛ لأن هذا هو القانون؛ فإنها تدل على ضيق أفق لا حدود له وعلى نظرة سطحية تنقصها الحكمة السياسية، وإذا تم تطبيق ذلك فإن البلاد ستشهد سيلاً من الناس يساقون إلى الحبس، فالقوانين وضعت لمواجهة أوضاع عادية، ونحن الآن في مواجهة أوضاع غير عادية.

والوضع الآن هو باختصار: أن الحكومة أوقفت مفعول القانون العادي بقانون استثنائي، ولكن حصيلة هذا العمل الخطير لم تزد على جمع الشيكات وإحصائها، ثم إعادتها إلى أصحابها الأصليين، وإرجاع الأوضاع مرة أخرى إلى ما كانت عليه قبل صدور القانون الاستثنائي، والسؤال إذن: هل كان إحصاء المبالغ والشيكات يحتاج إلى مثل هذه الخطوة الكبيرة لو كان الهدف منه هو الحصول على بيانات إحصائية فقط؟

الجواب: طبعاً لا.. وألف لا..

الهدف من القانون الاستثنائي كان واضحاً؛ وهو إيجاد الإطار القانوني المرن لعلاج الأزمة وحلها، ومن هنا كانت حكمة المشرع الذي صاغ القانون فأعطى مجلس الوزراء حق العودة بالأسعار إلى وضعها الأصلي، وترك للمجلس حرية تحديد نسبة الأرباح التي يمكن أن تضاف إلى ذلك المبلغ.

ماذا عمل مجلس الوزراء بهذه الصلاحية؟ أصدر المجلس قراره بأن النسبة المضافة إلى السعر الأصلي هي نفس ما وافق عليه الطرفان – أي البائع والشاري – وكأننا يا بدر “لا رحنا ولا جينا”، أو كما قال الشاعر: و”فسر الماء بعد الجهد بالماء”؛ ومعنى ذلك أن على كل من دخلوا السوق أن يدربوا فيما بينهم مبلغ 27.7 بليون دينار، وهو مبلغ يفوق احتياطيات البلاد أكثر من مرة.

يلفت نظر المراقب والفاحص للأوضاع السائدة الآن غياب الخبرة الاقتصادية عن أجهزة الدولة الرئيسة المسؤولة من إمكانية النظر في البدائل ويجنبه فضيلة إخضاع آرائه للتشريع والنقد قبل إقدامه على اتخاذها ويصور له مع مرور الزمن أن رأيه هو الصواب؛ حيث لم يجرؤ أحد من المحيطين به على الاختلاف معه إما عن جهل وإما عن خوف؛ ولهذا نجد أن قرار مجلس الوزراء المشار إليه أجهض روح التشريع الاستثنائي وإن كان تمسك بنصه الحرفي والقانوني.

فهو قد رمى الكرة مرة ثانية إلى ملعب المتداولين والمتعاملين والمعسرين وكل من له علاقة بالموضوع، وترك لهم أن يتفقوا فيما بينهم على نسب الربح والتخفيض الممكن فيما بينهم دون المساس بحقوق الآخرين، ولنا أن نتصور أي فوضى ستحدث وأي خراب سيعم حينما تترك الرعية بدون راعٍ، وكأن الحكومة تقول للناس: إن الجميع مسؤولون عن الأزمة، ما عدا الحكومة!

في رأي الكاتب أن هذا التصرف يعتبر تخلياً عن المسؤولية، ولا تستطيع الحكومة أن تتخلى عن المسؤولية وتترك الأمور سائبة مع ما يصحب ذلك من بلبلة وضياع، فواجبها يقتضي ممارسة القيادة الاقتصادية التي تفرضها مصلحة البلاد، خاصة وأن مسؤوليتها فيما حدث واضحة للجميع.

والقيادة الاقتصادية مطلوب منها أن تباشر تطبيق الحلول التي أفرزتها الآراء والتعليقات الكثيرة التي شهدتها البلاد، وأول البديهيات منها إجراء تخفيض ملموس على حجم المديونية يعود بها إلى السعر الأصلي مضافاً إليه، أما نسبة ربح يحددها مجلس الوزراء بقرار منه يعدل القرار الذي صدر (وليس هناك أسهل من تعديل القرارات)، وإما اتخاذ تاريخ معين هو 20/ 9/ 1982م كموعد لإنهاء أجل الشيكات وسريان الفائدة المصرفية العادية على الفترة التي تتبع ذلك حتى تاريخ صرف الشيك.

إن إجراء كهذا الكفيل بإحداث مفعول سحري في حجم الأزمة.. ولكن.. كلما تأخر اتخاذه أصبح مفعوله محدوداً.

تبقى المشكلة الرئيسة التي ما برح الكاتب يريد الحديث عنها؛ وهي أنه بعد كل الإجراءات الضرورية التي سيتم اتباعها من تخفيض حجم المديونية إلى إجراء المقاصة إلى الاستيلاء على أملاك البعض وأمواله، سيبقى هناك عجز في المعاملات لصالح الدائنين، وهذا العجز لا بد من تمويله كإجراء احترازي إلى أن تعود الأسعار إلى أوضاع أكثر عدالة مما هي عليه الآن.. والتمويل لا يمكن أن يتم إلا بجسر تمويلي على شكل سندات مقسطة على عشر سنوات يتم إطفاء عشرها سنوياً.. إلى آخر ما جاء في الاقتراح بهذا الشأن، وهذا الجسر التمويلي لا يمكن تدبيره إلا من الدولة أو من عقد قرض دولي تساهم فيه بنوك عالمية التي تورطت مع الدول النامية، وتبحث الآن عن فرصة لإقراض عميل لا يزال تصنيفه من الدرجة الأولى.

وكما أن الأزمة الاقتصادية التي تهدد العالم الآن تجد من يدق أجراس الخطر بشأنها، وتجد تجاوباً واستعداداً من الحكومات لعلاجها عن طريق التضافر والوصول إلى وسائل علاجية وقائية بغض النظر عن فكرة العقاب.. فكذلك الأزمة الكويتية.. وما أكثر من دق ويدق أجراس الخطر بشأنها! يجب أن تعالج من هذا المنطلق المعقول الذي يركز على الحل لا العقاب.

Comments are closed.