May 20, 1982

في المقال الأول حول هذا الموضوع تطرق الكاتب إلى بعض أوجه ترشيد الإنفاق الحكومي، وضرب أمثلة على ارتفاع تكلفة بعض المشروعات الكبيرة بسبب تأخر اتخاذ القرار المناسب بشأنها في وقت عرضها لأسباب ثانوية، فمثال تأخر البت في مشروع مجمع الوزارات لأن المهندس الاستشاري الذي كان معيناً لتصميم المشروع طلب أتعاباً قدرها 15% من كلفة المشروع المقدر حينذاك بــ7 ملايين دينار، وبعد مفاوضات طويلة وشاقة أقرت وزارة الأشغال العامة إعطاءه 12%، فما كان منه إلا أن رمى بأوراقه وانسحب من المشروع، وتقرر بعدها توفير كلفة التصميم، وذلك بأن يتم تصميم المشروع من قبل جهاز الوزارة، وهذا ما تم بالفعل، ولكن التأخير الذي نجم عن ذلك قفز بكلفة المشروع نفسه 7 أضعاف.

ولقد قصدتُ من اختيار هذا المثل أن أشير إلى تركيز أجهزة الدول في مناقشتها على الجوانب الهامشية للتكلفة وترك الجوانب الرئيسة، فالذي تم توفيره بالنسبة للتصميم تمت خسارته عشرات المرات بسبب التأخير، ناهيك عن تأخر تنفيذ المشروع نفسه عدة سنوات.

وتجد أن الجميع يعتبرون أنفسهم خبراء وقادرين على مناقشة أتعاب المهندسين والاستشاريين، والكل يريد تخفيض هذه الأتعاب، بل وامتد الأمر إلى أن وصل إلى طرح مناقصات لاختيار محاسبين ومحامين، وهذا يعتبر – في رأيي – انحداراً ما بعده انحدار؛ يؤدي – بالطبع – إلى المستوى الرديء الذي قد نراه في بعض المشروعات، وفي الوقت نفسه لا أحد يلفت إلى فحص الكلفة الكبرى؛ وهي كلفة المشروع نفسه، وتكون النتيجة هذا التأخير الكبير في تنفيذ المشروعات؛ مما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع تكلفتها ارتفاعاً ملحوظاً.

هذا جانب من جوانب الترشيد، حبذا لو أولته الجهات المختصة اهتمامها! وهو باختصار يعني الاهتمام بالمهنيين من مهندسين واستشاريين وإرضاءهم بالنسبة لأتعابهم، واختيار الأفضل منهم ليس على أساس أسعاره المنخفضة، ولكن على أساس قدرته وسمعته المهنية واحترامه لأخلاقيات المهنة، وسنجد أن ما قد يبدو سعراً عالياً لهذا المهني سيؤدي إلى توفير كبير في تكلفة المشروع نفسه، وهو الأساس، ويحضرني في هذا الصدد مثل إنجليزي معروف (PENNYH WISE. POUND FOOLISH)؛ أي بما معناه: يهتم بحساب وعدّ الفلوس ويهمل حساب وعدّ الدنانير.

وهذا الجانب من جوانب الترشيد سهل التطبيق، وكل ما يتطلبه تغيير طفيف في أسلوب معالجة المشروعات، والبت فيها، وإيكال الأمر إلى ذوي الاختصاص في الحكومة من الذين لا ترتبط مصالحهم مباشرة بعملية اختيار المهنيين كالمقاولين والتجار.

وهناك جانب آخر لا بد من طرحه وتشريحه للعيان؛ وهو جانب استملاك الأراضي، فهذا الأمر زاد حتى طفح به الكيل، وللكاتب مواقف محددة من هذا التبذير منذ وقت طويل، فتثمين الأراضي حين بدأ في الخمسينيات كان بهدف تخطيط البلاد وتوزيع مناطق السكن فيها وتحديد استعمالات الأراضي، ولقد حقق التثمين هدفاً آخر هو نقل الثروة من الدولة إلى المواطنين عن طريق تثمين بيوتهم وأملاكهم بأسعار مرتفعة؛ مما أدى إلى خلق رؤوس أموال في أيديهم، نمت فيما بعد وكبرت حتى أصبحت تشكِّل الآن القطاع الخاص الكويتي، وهو قطاع عملاق بمقاييس منطقة الشرق الأوسط.

إلا أن استمرار عملية التثمين أدى – ويؤدي – إلى تدفق مزيد من الثروة إلى أيدي أصحاب الأراضي، يضيفونها إلى ثرواتهم الخيالية دون أن يكون لذلك أي أثر على طريقة إدارتهم لها أو تأثيرها في المجتمع.. والتثمين الآن ما هو إلا عبث يجب وضع حد له، إذا كانت دعوات الترشيد للإنفاق الحكومي جادة؛ فهذا مجال لا يختلف أي محلل منصف في كونه قد استهلك، وأصبح أمراً غير مطلوب إلا من فئة المنتفعين به من كبار الملاك وشركات العقار، أما حاجة الدولة إلى الأراضي لمشروعاتها فقد تشبعت ولم يعد هناك مجال جديد لاستملاك المزيد من الأراضي، وبإمكان الدولة أن تنزع حاجتها من الأراضي للمرافق العامة في كل قطعة أرض كبيرة مملوكة من قبل الخواص، وهو ما تفعله الآن إذ تحدد نسبة 30% لهذا الغرض بدون دفع ثمن لها، أما إذا تطلبت الحاجة القصوى انتزاع ملكية أرض معينة للمنفعة العامة، فيجب أن يكون هذا هو فعلاً ما هدف إليه القانون بالأصل؛ أي انتزاع ملكية الأرض بالسعر الحقيقي وليس بالسعر المضخم الذي تكون عليه، والكل يعرف الأساليب التي يلجأ إليها كبار الملاك حين يقومون بشراء قطعة أرض صغيرة مجاورة لقطعة كبيرة يتوقعون استملاكها من قبل الدولة، وذلك بأسعار عالية، وبهدف تثبيت سعر مصطنع في المنطقة التي تقع فيها القطعتان، وتجيء لجنة التثمين فتعلن أن هذا هو سعر السوق السائد، وهو في الواقع أبعد ما يكون عن السعر الحقيقي.

هذا مجال آخر من مجالات ترشيد الإنفاق؛ وهو يعني باختصار الكف عن تبذير أموال الدولة في عمليات التثمين الذي انتهى عصره وانتهى مفعوله في نقل الثروة من يد الدولة إلى يد مواطنيها.

ويوجد مجال آخر في مجالات ترشيد الإنفاق – وما أكثرها – وهو يتعلق في الاستعمال الأمثل للقوى العاملة الموجودة في الكويت، وأنا سأتطرق إلى جانب واحد فقط من هذه الجوانب من شأنه أن يوفر على الدولة الكثير مما يهدر في ميزانية الباب الأول، والقوى العاملة التي أقصدها هي أبناء المقيمين من مواليد الكويت، فهؤلاء يدرسون في مدارس الكويت – وإن كان بعضهم يضطر لدفع نفقات دراسته في الكويت الغنية – وينمون في المجتمع الكويتي، ويكونون عادة من المبرزين والأوائل في دراستهم.

وهؤلاء حيث ينهون دراستهم الثانوية تواجههم المفزعة؛ وهي أنه لا مكان لهم في الكويت، وعليهم مغادرتها للدراسة والتخصص في مكان آخر، وربما سمح لهم بعد ذلك بالعودة، والسؤال هو: لماذا لا تركز الدولة على هؤلاء، فتفسح لهم مجال التخصص المهني في المعاهد والدراسات المهنية المختلفة؛ كالتعليم والهندسة التطبيقية ومعهد المواصلات السلكية واللاسلكية والمطافئ ومعاهد السكرتارية والمعهد التجاري وغير ذلك من مختلف التخصصات؟ بل لماذا لا تقوم الدولة بتشجيعهم على الالتحاق بهذه المعاهد؟ فهؤلاء الناس كويتيون فعلاً وإن لم يكونوا من حملة الجنسية الكويتية، وهذا الأمر يفيدهم ويفيد البلاد، فيؤمِّن للبلاد مصدراً محلياً للقوة العاملة المؤهلة محلياً، وهؤلاء أعرف بظروف البلاد من غيرهم من الذين يتم التعاقد معهم بشكل جديد من الخارج وبأسعار كبيرة باعتبارهم خبراء، وباعتبار أن كل فرنجي برنجي!

إن تبني الدولة لأولاد المقيمين من الوافدين يضيف إلى القوى العاملة الكويتية قوى أخرى تشبه القوى الكويتية من حيث نموها في بيئة الكويت، وهو مصدر جيد ومضمون – وليسمح لي القراء باستعمال تعبير بارد بعض الشيء – وهو مصدر أرخص من استيراد قوى عمل جديدة، وفي هذا ترشيد للإنفاق في الباب الأول من الميزانية، أما آلاف العاطلين عن العمل المتواجدين في الوزارات فيبدو أن ظروف الكويت تحتم عليها الاستمرار في تحمل أعبائهم، ولكن المطلوب هو عدم زيادة هذا العبء.

هذه بعض الأوجه التي يمكن أن يسير فيها ترشيد الإنفاق الحكومي.

والكاتب لا ينصِّب من نفسه واعظاً، ولكن قصده هو المساهمة في المناقشة العامة حول هذا الموضوع الحيوي الذي يهم جميع الناس، ولا يجوز أن تنحصر مناقشته بين الكواليس فقط، وإنما يجب أن يطرح للمناقشة العامة على صفحات الجرائد طالما بقيت لنا هذه النعمة النادرة وهي حرية الصحافة التامة.

Comments are closed.