في تقريره الدوري، الذي صدر في أواخر مايو 1983م، يشير البنك المركزي إلى أن البيع بالأجل كان ممنوعاً، وأنه نتيجة للتراخي في تطبيق ذلك المنع، ولأنه كان يتعارض مع الرغبات “الشعبية” لمتعاملين في السوق، فقد غضت الحكومة النظر عن فرضه.
وبعد أن يتطرق البنك المركزي إلى العجز المتوقع في ميزانية الدولة، ينبه إلى ضرورة إعادة زمام المبادرة إلى القطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية المختلفة.
والكويت كان أمامها بعد تدفق الثروة النفطية أن تخلق من شعبها جيشاً من الموظفين المعتمدين على الدولة في أرزاقهم والقانعين بالمرتبات التي يحصلون عليها لقاء التوظف وليس لقاء العمل.
ولكنها اختارت البعد عن هذا الطريق وتجنبه؛ لأنها رأت بحكمة حاكمها آنذاك المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح، ورجالاتها المتمثلين في أعضاء مجلس الإنشاء في أوائل الخمسينيات ومجالس الإدارات الحكومية المختلفة؛ رأت أن تحويل الكويتيين إلى جيش من الموظفين سيؤدي إلى زوال السبب الأساسي والشرعي لقيام الكويت نفسها، وأن هذا الشعب المهاجر الذي جاء من بلاد مجاورة شتى، لم يترك موطنه الأصلي سعياً وراء الوظيفة، وإنما تركها سعياً وراء حياة أفضل.. حياة تمتلئ بالحيوية وبالنشاط وبالتجديد وبالمغامرة، ولقد كان الكويتيون ولا يزالون مغامرين من أجل تحسين أوضاعهم، وهذا هو الذي ميَّزهم ويميزهم عن أهلهم وجذورهم في البلاد التي هاجروا منها وتركوها إلى غير رجعة.
ولعل هذا الشعور هو الذي منع خبراء مجلس الإنشاء وعلى رأسهم آنذاك الجنرال هيستد من تحقيق ما دعوا إليه من أن تقوم الحكومة بتملك كل أراضي البلاد مرة واحدة عام 1952م، وبالسعر الذي تم تحديده لسعر المتر في صفاة الكويت بمبلغ 75 روبية! وهو سعر اعتبر في حينه خيالياً، وقامت ضجة كبرى بسببه، ومع ذلك فقد دعا الجنرال هيستد إلى تطبيقه على كل أراضي الكويت (داخل المدينة بالطبع) وشرائها مرة واحدة أو بعبارة أخرى تأميمها كلها.
وعارضه أعضاء مجلس الإنشاء معارضة شديدة، ربما لاعتقاد بعضهم بأن السعر كان فعلاً مرتفعاً بمقاييس ذلك الزمان، ولكن السبب الحقيقي كان واضحاً أمام العقلاء منهم وثاقبي النظر وبعيديه، لقد رأوا في حينه أن ذلك سيجعل من الدول العنصر الوحيد العامل والمتحرك في الاقتصاد الكويتي الذي بدأ في التفتح والنمو، وأن هذا سيقضي على أي مبادرات للقطاع الخاص الذي قامت الكويت أصلاً على أكتافه وعلى مقدرته وعلى مغامراته، ولهذا عارضوا وتركوا الأمور تأخذ مجراها الطبيعي.. وبقية القصة معروفة.
فقد تطورت الأسعار تدريجياً نحو الارتفاع، وتم استخدام استملاك الأراضي كوسيلة لتحويل جزء كبير من الثروة النفطية إلى القطاع الخاص الكويتي؛ مما أدى إلى نموه بحيث أصبح عملاقاً كبيراً، وبحيث استمر في مبادراته الإنمائية والاستثمارية داخل الكويت وخارجها.
وبالطبع؛ فإن الذي كوَّن ثروته في الخمسينيات يكون أكثر محافظة من الذي كوَّنها في الستينيات، وهذا بدوره أكثر محافظة من الذي كوَّنها في السبعينيات.. وهلم جرا.
ولكن التوقف في تكويت الثروة، ومحاولة حصرها أو احتكارها من قبل فئة محددة يقود حتماً إلى الانفجار، وفي هذا يستوي الناس أينما كانوا وأينما وُجدوا، ولهذا فإن الرأسمالية المتنورة تسعى دائماً إلى توسيع نطاق عضويتها، وتضم إلى صفوفها عناصر جديدة تبعث فيها حيوية جديدة، وتضيف إليها دماء جديدة، وتقود إلى تجديد شبابها.
أما الرأسمالية الغبية فتسعى إلى تثبيت الاحتكارات وحصر الثروة، ثم الاستيلاء على النفوذ السياسي والسلطة والتوجه بعد ذلك إلى تكوين طبقة حاكمة تمسك برقاب الناس وتوجيههم لخدمة مصالحها الخاصة، وهذا النوع هو المتواجد الآن في أمريكا الوسطى وبعض أجزاء أمريكا اللاتينية، وأدى طغيانهم إلى الثورات الدموية المستمرة في السلفادور ونيكاراجوا وجواتيمالا وإلى العنف الثوري في الأرجنتين وكولومبيا وغيرها من البلاد التعيسة.
والرأسمالية الوطنية في الكويت كانت ولا تزال رأسمالية متنورة، واعية لدورها الوطني السياسي والاجتماعي، وقادت البلاد متعاونة من السلطة قيادة حكيمة، وفسحت المجال في صفوفها لدخول الدماء الجديدة مما زادها حيوية ونشاطاً، ورسخ من دورها الإنمائي في تطور البلاد.
والآن تواجه الرأسمالية الوطنية في الكويت مأزقاً كبيراً تضافرت عدة أسباب في خلقه، وهو مأزق يهدد بقتل روح المبادرة لدى القطاع الخاص، ويبعث مرة أخرى شبح تحول الناس جميعاً إلى موظفين عاملين لدى الدولة، والدولة الآن غير الدولة في الخمسينيات، فهي الآن عملاق ضخم لا حدود لقوته بالمقارنة مع القطاع الخاص، بينما كان في ذلك الوقت في حجم القطاع الخاص.
وهذه العوامل يمكن حصرها في أزمة سوق المناخ وفي سياسة الحكومة تجاه قطاع المقاولات بالذات، ولنبدأ بالأسهل وهو قطاع المقاولات، فالواضح الآن أن تشجيع المقاولين من كوريا واليابان وسنغافورة والفلبين، ودخول هؤلاء إلى ساحة العمل الحكومي بالشكل الذي دخلوا فيه قد ضرب قطاع المقاولات الكويتي في الصميم وشل من حركته، وقاد بعض أقطابه إلى التوجه إلى خارج الكويت في محاولة مستميتة للبقاء، كما قاد عدداً آخر من أقطابه إلى التوقف عن ممارسة نشاط المقاولات المحلي من تأثير مضاعف على الدورة الاقتصادية، فالمقاولة تعني فتح اعتمادات “تشغيل للبنوك”، واستيراد مواد تشغيل للبنوك للتجار وللأنشطة المكملة مثل خدمات النقل والشحن والتنزيل والتفريغ والتأمين والتخزين، وتوظيف فنيين وعمال؛ وهذا يعني أن العمال والفنيين يحتاجون إلى سكن وإلى غذاء؛ وبالتالي سيقومون بصرف جزء من أجورهم في السوق.
وهكذا نرى أن مقاولة بمبلغ 10 ملايين دينار تخلق أعمالاً وأنشطة ربما تصل بقيمتها إلى حدود 100 مليون دينار، وخاصة إذا كان المقاول محلياً يستورد عن طريق الوكلاء المحليين، ويعتمد على التوظيف المحلي، أما إذا كان المقاول من النوع الآسيوي الذي سبق الإشارة إليه؛ فإن استفادة السوق منه لا تتعدى الحدود الدنيا التي لا مفر منها، أما دورة رأس المال وتأثيره فإن المستفيد منه هو اقتصاد تلك البلاد التي صدرت المقاول.
ولقد كان لقصر النظر في مواجهة هذه القضية أن اعتقد بعض المسؤولين أنهم يوفرون على الدولة أموالاً طائلة إذا وكَّلوا أعمال البناء والإنشاءات إلى المقاولين الأجانب هؤلاء، وثبت فيما بعد أنه لم يكن هناك توفير، فالتعديلات التي تم إدخالها أثناء تنفيذ المشروعات أكلت كل توفير ظاهري، وبعض المشروعات التي أعطيت بأسعار منخفضة توقف العمل فيها وأصبحت كالأطلال، ومثال ذلك مشروع الإسكان في الصوابر الذي لا يزال الغموض يحيط بكيفية إعطائه لمقاول من سنغافورة، وذلك بعد إقفال موعد تلقي العطاءات وإعلان النتائج بالنسبة لمن تقدم.
وهكذا نرى أن قصر النظر وجشع البعض أدى ويؤدي إلى القضاء التدريجي على قطاع المقاولات الكويتي، والذي نراه الآن يسعى فقط إلى إبقاء نفسه حياً عن طريق اللجوء إلى المنافسة المهلكة التي لا تكاد نتائجها تكفي لدفع مرتبات العاملين في شركات المقاولات العامة.
ولقد تحرك قطاع المقاولات وما يتبعه من قطاعات مكملة كالنقل والشحن والتفريغ والتأمين والتخزين إلى العمل خارج الكويت، وبالذات إلى العراق، وهو أمر ينسجم مع توجهات الكويت العربية وحتى المحلية، ويعيش هذا القطاع الآن في محنة كبيرة لم يلتفت إليها أحد؛ بسبب ضخامة المحنة الأخرى في سوق المناخ، وهذه المحنة سببها تأخير الدفع للمقاولين بسبب الأوضاع المالية الصعبة في العراق كنتيجة مباشرة للحرب، ويرى المرء كيف عالجت الدول الأخرى هذا الأمر سواء كانت فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا؛ فتدخلت الحكومات لتخفيف الضغط والعبء على مقاوليها وشركاتها العاملة في العراق، وحتى الأردن رتب عن طريق البنك المركزي الأردني تسهيلات خاصة للمقاولين والموردين الأردنيين العاملين في العراق، فلا أحد يشك في التعامل مع العراق أو في كلمته، ولكن الظروف السائدة الآن أوجدت صعوبات مالية حدت من قدرته على الدفع، أما هنا فلا أحد يسأل، والجواب هو: عليكم أيها القطاع الخاص أن تتحملوا مسؤولية قراراتكم، وينسى المسؤولون كيف أن المصالح التجارية لمواطني وشركات الدول تكون عادة على رأس قائمة الموضوعات التي يبحثها رؤساء الدول في زياراتهم الرسمية للكويت، أما نحن فيبدو أننا نستحي من الإشارة إلى مصالحنا والمطالبة بحقوقنا، وتدخل الدولة لرعاية رأس المال الكويتي العامل في الخارج.