June 17, 1983

إن الادعاء بوجود حل أوحد هو ادعاء ضعيف، فأزمة كهذه لا بد أن يتم احتواؤها من عدة جانب، وأن تصوب إليها عدة جهات لاستئصال أسبابها.

أما آثارها فسيطول بنا الأمد، ونحن نكتوي بالنار التي أشعلتها، وسيمضي وقت طويل قبل أن نستطيع إعادة حياكة النسيج الاجتماعي الذي تمزق، والشكوك التي حلت محل الثقة، والقسوة التي تجلت وأخذت مكان الرحمة في تعامل الناس مع بعضهم، فلقد كشفت لنا الأزمة عن أخلاقيات كانت مخيفة، وكنا ندعي بعدم وجودها، وأثبتت لنا الأزمة أيضاً أننا لسنا أسرة واحدة، وأن أبعد صفة عنا هي صفة التسامح، ولا بأس من كشف هذه الحقائق، فالمشكلة عندنا تبقى دائماً وأبداً هي مشكلة التشخيص الصحيح والدقيق لمشكلاتنا وصفاتنا، وإذا أخطأنا في التشخيص، وبنينا تصرفاتنا بعد ذلك على الخطأ، كان الثمن فادحاً، وهو ما نراه الآن ماثلاً أمام أعيننا، وإن كان البعض لا يزال تحت تأثير الغشاوة التي غطت الأنظار لفترة طويلة من الزمن، والبعض الآخر لا يقع تحت تأثير تلك الغشاوة ولكنه راض عن الذي يحدث وهو يعتقد أن هذا إجراء سبَّبته عدالة السماء لإعادة ترتيب شؤون البيت، وتصنيف شاغليه حسب مقامهم وحسب أصلهم وفصلهم.

ومع ذلك، فمن الصعب أن يتصور المرء أن الأمور ستترك على ما هي عليه، وأن الانحدار سيستمر دون محاولة جادة لإيقافه.

ولقد كانت دعوة الدولة لغرفة التجارة والصناعة أن تساهم مرة أخرى في الحل دليلاً واضحاً على القلق الذي يسيطر على الجهات العليا تجاه تطور الأمور، والاقتناع البطيء بأن ما طرح من حلول حتى الآن لم يفِ بالغرض، ولم يؤدِّ إلى استئصال الداء، وأن السبب أعمق من تعديل هذه الحلول أو تلك.

والسبب واضح الآن؛ وهو الخطأ في تشخيص الأزمة، الذي أدى – كما أسلفنا – إلى الحل نصف القانوني.

والكاتب لا يدعي إلماماً دقيقاً بشؤون القانون، ولكنه بحكم اطلاعه يعرف عن أمور قانونية بديهية، مثلاً من هو المفلس؟ هل يمكن أن تصنف بعض الناس كمفلسين بينما يرى القانون أن تصرفاتهم التي أدت إلى إشرافهم على الإفلاس غير قانونية؟ أليس من بديهيات حق الدفاع الشرعي لأي مواطن أن يقدم محاميه إلى القضاء ما يثبت أن التصرفات التي قادت موكله إلى الإفلاس هي أساساً غير قانونية (مثل بيع المقفلات قبل أوانها، وبيع الخليجيات وهي غير مرخص لها في الكويت)؟ وإذا اقتنعت المحكمة بذلك، أبطلت تلك البيوعات والتصرفات، هل يبقى صاحبنا مفلساً، أم ينجو من الإفلاس؟ هذا سؤال لم تتم الإجابة عنه لسبب بسيط هو أن القانون الاستثنائي منع الملاحقة القضائية، ولكنه أوصل المتعاملين إلى مرحلة الإفلاس وجمدهم هناك، والمفروض أن تتم إحالتهم إلى القضاء العادي؛ لأن إجراءات الإفلاس ستخضع إن عاجلاً أم آجلاً لنفس الإجراءات العادية المنصوص عليها في قانون التجارة، وحينها ماذا سيحدث؟ علم ذلك عند الله.

وهذا ما قصده الكاتب بالحل نصف القانوني.

كان من المفروض (إذا سلمنا جدلاً بأن الأزمة كانت محصورة بأشخاص) أن يترك الأمر للقانون العادي يأخذ مجراه والقضاء العادي يمارس دوره الطبيعي، وكان القضاء، بلا شك، سيرتفع إلى مستوى المسؤولية، ويستخدم كل ما هو متاح له من أساليب وأدوات للبت العاجل في مثل هذه القضايا، فلدينا القضاء المستعجل، ولدينا الدوائر الخاصة التي كان يمكن أن يتم استحداثها، والقضاة بعد هذا كله هم أفراد من هذا المجتمع يشعرون بشعوره ويتأثرون بما يحدث له وفيه، ولكن هذا لم يحدث، واستعاضت الدولة بدلاً عنه بنصف قانون.

والكاتب يعتقد أن الأزمة لم تكن في يوم من الأيام أزمة أشخاص، وقد زاده تطور الأمور إيماناً بذلك، فالحل لم يكن ممكناً بالطرق القانونية العادية.

والحق أن الدولة رأت ذلك في حينه، ولكنها لم تتوصل بعد ذلك إلى النتيجة المنطقية، أو لنقل: إن قوى متعددة منعت الوصول إلى النتيجة المنطقية لأسباب شتى لا مجال هنا للغوص فيها، وهذه النتيجة هي:

إذا لم يكن الحل قانونياً بحتاً، فلا بد أن يكون استثنائياً، والاستثناء هذه هو استثناء من القاعدة، وأهم قاعدة في أزمتنا هذه هي تمسك الكثيرين بمبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”، والإصرار على الدفع بالكامل، رغم علم الجميع أن الدفع بالكامل هو لعمليات كان من الممكن إبطالها في المحاكم، ولكنه الجشع والطمع، وعدم الاكتراث بالغير.

ومعنى الاستثناء هو أن يتم تخفيض المديونية بقانون، إذ لم يكن من المعقول أن نفترض أن الناس ملائكة وأنهم سيخفضون لبعضهم بعضاً ويتراحمون، ويتعاطفون، ففي مثل هذه الظروف يسود قانون: نفسي.. نفسي.. وهو من القوانين الطبيعية المعروفة وقت الشدائد! على كلٍّ، هذا كله لم يحدث، نحن لسنا الآن في مجال الندب والبكاء على الأطلال، ولكننا في مجال التحليل للعلاج الذي استخدمته الحكومة، والذي كان علاجاً يصلح لمرضى غير المرض الذي استشرى في جسم المريض.

المديونية لم تخفض، وإذا أريد تخفيضها الآن، فما حال القلة من الشرفاء والمعقولين الذين دفعوا ديونهم بالكامل أو الذين اتفقوا على التخفيض وخفضوا؟ كيف ستتم معالجة أوضاعهم؟ هناك رأي يقول باعتبار كل ما تم من مخالصات حتى الآن بمثابة دفعات على الحساب، يتم تصفيتها إذا طبق مبدأ التخفيض على الجميع، وربما أدى التخفيض إلى رفع عدد من “المفلسين” من الإفلاس إلى خانة أخف قليلاً.

وهناك المثال الأمريكي الواضح الذي عالج مشكلة مشابهة قبل عامين حين أدت أزمة الفضة إلى إشراف أكبر مضارب وتاجر في الفضة وهي عائلة هنت إلى إشرافها على الإفلاس، وكان إفلاسها سيجر وراءه المئات من الناس والمؤسسات، فكان أن أصدر الكونجرس الأمريكي قانوناً خاصاً تم بموجبه تعويم هنت وتجنيبه الإفلاس، وتحملت الخزينة العامة قيمة التعويم، ولكن هنت سيبقى طول حياته يسدد للحكومة الأمريكية، وبذلك أمكن احتواء الأزمة في مهدها، ونجا الاقتصاد الأمريكي من تأثيرها.

هل كان يمكن تطبيق حل كهذا في الجو المحموم الذي ساد البلاد في خريف 1983م؟ الجواب هو بالطبع كلا.. فقد كان مثل ذلك الحل مستحيلاً من الناحية السياسية، ولكن يتضح الآن أنه لو طبق حل شبيه في حينها؛ لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، ولما كانت الدولة قد أنفقت ما أنفقته حتى الآن دون طائل، ولأمكن للسوق أن تحمل نفسها وتحافظ على أسعار الأسهم فيها كما كانت في خريف 1982م على أقل تقدير.

ولكن.. ماذا يمكن أن نعمله الآن؟

إن مبدأ تعويم المفلسين، أو لنكن دقيقين أكثر فنضع كلمة المفلسين بين قوسين، فالقانون يقول: أنت بريء إلى أن تثبت إدانتك، وهؤلاء لم يتقرر أنهم مفلسون إلى أن يحالوا إلى القضاء العادي ويصدر حكمه بشأنهم.. إن مبدأ تعويم “المفلسين” لا يزال مبدأ غير مقبول سياسياً، ويثير حوله الكثير من الانفعالات والتهم؛ ولهذا لا يجب الخوض فيه، وإنما تم استخدامه لضرب المثل على ما كان يمكن أن يحدث لو أن تشخيص الأزمة لم ينحصر في أنها أزمة أشخاص، وأن هؤلاء الأشخاص أساؤوا؛ ولهذا فيجب معاقبتهم، ذلك أن تعويمهم سيكون كمن كافأهم بدلاً من أن يعاقبهم.

ولهذا يبقى أمام الحكومة الآن مدخل أخير قد يتطلب الاستعانة بآراء الخبراء والمختصين من المؤسسات الدولية المخضرمة، وهذا المدخل هو في معالجة قيمة دينار “المفلسين” معالجة حكيمة، تحقق الغرض الأساسي والبناء الذي تهدف إليه عملية التقويم ذاتها، فمن ناحية سيتم تخفيض المديونية إلى أكثر من النصف، إذ يستحيل أن يزيد تقييم الدينار عن النصف.. ومن ناحية أخرى، قد ترى الدولة وضع حد أدنى لقيمة الدينار، ويكون هذا الحد مدعوماً بكفالة الدولة، بدلاً من الاستمرار في ضخ الماء في القربة المقطوعة، ونعني دعم الأسهم الكويتية؛ أي أن المقصود هو أن تكون الدولة كريمة في تقييم دينار “المفلسين”، وأن تتيح الفرصة لاستخدام هذا التقييم لسداد الديون أو الحصول على السيولة، والذي سيحدث في بادئ الأمر هو أن الناس ستندفع إلى تسييل السندات التي يحصلون عليها، ثم حين تهدأ الخواطر سيكتشف الكثيرون أن هذه السندات تشكل استثماراً مجزياً، ومن الأفضل أن ينتظروا قبل التفريط فيها، تماماً مثل ما حدث حين تم تحرير الجنيه الإسترليني في بداية حكم المسز تاتشر؛ فخرج من لندن بلايين الجنيهات، ثم ما لبثت، بعد هدوء الخواطر، أن عادت إلى لندن مرة أخرى ودعمت الجنيه تدعيماً حقيقياً وليس نظرياً.

وتقييم دينار “المفلسين” بطريقة كريمة هو الأمر الذي يجعل ممكناً العودة إلى تخفيض المديونية بشكل عام وبنسبة موحدة، وهو الرأي الشائع والمعقول الآن، بل والمقبول حتى من وجهة نظر الرفض السابقة، ذلك أن إعطاء دينار “المفلسين” روحاً جديدة يؤدي إلى إنقاذ الذين توقف الركب عندهم الآن، وعددهم عدة مئات، ولكنهم من المئات الذين يعادل الواحد منهم عدة مئات آخرين من حيث حجم التعامل والالتزامات، وإنقاذهم يقوي من قدرتهم على مواجهة مديونيتهم للآخرين، وهكذا تجر الأمور بعضها نحو الخلاص.

ويجب الاعتراف بصراحة تامة الآن أن تخفيض المديونية هو السبيل الوحيد لحل الأزمة، على أن يكون مدعوماً بإجراءات أساسية معضدة مثل تقييم دينار “المفلسين” بصورة كريمة، ومثل تقوية المتعاملين بصورة كريمة، ومثل تقوية المتعاملين الذين يوشكون على الوقوع الآن، وإذا وقعوا أوقعوا معهم مؤسسات البلاد.

ورغم عقم الاقتراحات التي تقدمت، فإن من الحكمة النظر في اقتراح تكوين لجنة وطنية من ذوي الرأي السديد، تتواجد باستمرار مع اللجنة الاقتصادية المنبثقة من مجلس الوزراء وتشارك في النظر إلى البيانات التي يفرزها الكمبيوتر وفي استخلاص النتائج منها، وتكون بمثابة المنبر الذي تستعرض فيه مختلف الحلول، وتخضع آراء المسؤولين فيه للمساءلة والمجادلة.

فهذه المشكلة أكبر من أن يتحمل عبئها شخص أو شخصان، ولقد أصبحت بمثابة أزمة خانقة تلف بتلابيب البلاد، وتمتص منها حيويتها ونشاطها، وأصبح موضوع علاجها أكبر من صلاحيات الوزراء أو اختصاصهم، ذلك أن أبسط بديهيات العلاج هي أن يقتنع المريض نفسياً بقدرة الطبيب أو الجراح، وإذا اقتنع أمكن تخطي نصف المرحلة، أما إذا لم يقتنع فإن سكين الجراح لا تنفع.

ويجب أن يصحب هذا مجهود مكثف لتهدئة النفوس والخواطر وإزالة القلق المسيطر على الأوضاع، ولا شك أن فن العلاقات العامة مطلوب تسخيره الآن لبث نوع من الطمأنينة النفسية، وطي صفحة التهديدات والوعيد.. فليس أسوأ من تصرف المرء حين يصحو من النوم بعد ليلة طويلة قضاها في التقلب على فراشه والتفكير في مصيره، فتفاجئه الصحف بتصريحات تثير المزيد من الهلع والرعب في نفسه، وتقرر نوع تصرفاته لذلك اليوم، لماذا لا نستبدل كل هذا بتصريحات مطمئنة؟ ولماذا لا نكتفي بما أحاق بالناس حتى الآن من ويلات ومصائب وأرق وقلق؟ فنحن في الكويت لا نحتمل المزيد من إيقاع الأذى بأنفسنا.

ويا أيها الناس، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

Comments are closed.