September 29, 1983

أثلج صدر الكاتب ما قرأه من ردود حول موضوع اللغة العربية، ولم يكن يتوقع أي ردود باعتبار الموضوع من الموضوعات التي قد لا تثير الناس، ولكنه اكتشف خطأه.. وما أحلاه من خطأ!

والذي لفت نظر الكاتب هو أن معظم المعلقين يبدؤون بإطراء الكاتب واستغراب قدرته على معالجته مثل هذا الموضوع! ولعل هذا الاستغراب يعكس مأساة اللغة العربية أكثر من غيره، فمعظم الناس كما يبدو فقدوا الأمل في اللغة، بحيث إنهم أزاحوها من تفكيرهم اليومي وركنوها في سلة المهملات، وتركوا أمرها للمدرسة ودرس اللغة العربية الممل الذي يجب اجتياز الامتحان فيه؛ لأن الفشل في ذلك يمنع الطالب من الحصول على الشهادة، ومعنى ذلك أن ذلك الدرس ليس إلا محطة مزعجة لا بد من المرور بها مرور الكرام ثم نسيان ما شوهد فيها.

ولهذا استغرب البعض كيف أن أحد الكتَّاب الذي عُرف عنه الكتابة في موضوعات الاقتصاد والسياسة يتناول موضوعاً متخصصاً كهذا!

والرد على ذلك هو أن الكاتب تناول موضوع اللغة العربية باعتباره أساساً راسخاً للشعور القومي والانتماء، ولقد عالج الكاتب موضوع القومية العربية من قبل، وهو يعتبر معالجته للغة العربية امتداداً طبيعياً للموضوع الأول.

وحين يدرس أي كاتب أو مفكر موضوع الانتماء القومي لا بد له من فحص الأساسيات وأولها اللغة، وهكذا كانت المعالجة من منطلق الانتماء، ومن منطلق الهوية الضائعة التي يشعر بها العربي الآن، ويأمل الكاتب أن يُكمل أبحاثه في هذا الأمر بمعالجة موضوع التعليم كقضية سياسية.

المأساة في الأمر هي أن يعتقد البعض أن موضوع اللغة العربية من الموضوعات الشائكة التي لا يستطيع تناولها إلا المتخصصون، وهذا بالطبع رأي خطير.. وخطير جداً.. فنحن جميعاً نعبر عن آرائنا بلغتنا، وإذا غاب عنا مدى تأثير لغتنا على أساسنا القومي وانتمائنا، وتهيبنا من فحص آثار اللغة ومدى تكيّفها مع العصر الحديث ومدى مساهمتها في وضع حل لمشكلة الانتماء؛ فإننا سنبقى أبد الدهر على الهامش، وسيصعب علينا أن نثق بقدراتنا ونكتشفها، ونسخرها لخدمة الصالح العام.

وربما يطبق آخرون نفس هذا الاتجاه على الدين، فيقولون: إن تفسير الدين هو أمر تخصص لا يجوز لأحد التطرق إليه إلا إذا كان متخصصاً.. ويعتقد الكاتب أن هذا الرأي يقودنا إلى أن نصبح قاب قوسين أو أدنى من خلق طبقة من الرهبان والقساوسة في الإسلام، وهو أمر مرفوض؛ إذ لا رهبنة في الدين.

ويمكن لأي مسلم أن يختلف في الرأي مع أي عالم من علماء الدين دون ضير أو حرج، محتكمين فقط إلى العقل، والعقل الحديث ليس به ما ينتقص من شأنه بالمقارنة مع العقل القديم، بل إن لدى الإنسان الحديث من وسائل العلم والبحث ما يفوق مئات المرات ما كان متاحاً للإنسان في العصور الغابرة، ولهذا فإن الرأي المجتهد الآن لا يقل شأناً إن لم يفُق شأنه شأن آراء الفقهاء والمجتهدين من السلف معتمداً أساساً على اللغة.

ولهذا؛ فإن التطرق إلى الشؤون العامة أمر مطلوب من الكتَّاب، إلا إذا اختاروا هم أن يحصروا مجال كتاباتهم في نطاق ضيق، والساحة مفتوحة للرد عليهم والاختلاف معهم أو الاتفاق معهم لمن يجد في نفسه المقدرة والأهلية لذلك.

وقد يكون مفيداً أن نضرب أمثلة على تطور اللغات، ومثال ذلك كوريا بعد انحسار الاحتلال الياباني، إذ لم يكن أحد يتحدث غير اليابانية؛ فأصدرت الحكومة الكورية حينها مرسوماً يمنع استخدام اللغة اليابانية منعاً باتاً، ولم تمضِ خمس سنوات حتى عادت لغة كوريا القومية تحتل مكانها الطبيعي في البلاد.

والمثال الأعظم من ذلك هو ما عملته “إسرائيل” بإحياء اللغة العبرية الميتة، وجعلها لغة التخاطب والكلام اليومي والكتابة لليهود، الذين كانوا يتكلمون عشرات اللغات الأخرى كلغة أُم، وخلال ثلاثة عقود من الزمن أصبح “الإسرائيليون” يتكلمون اللغة العبرية التي عادت إلى الحياة وتطورت.

وبقي علينا نحن العرب أن نحافظ على أكبر عامل توحيد بيننا، والعنصر الذي أبقى الشعور بالعروبة طيلة أربعة عشر قرناً؛ وهو اللغة العربية، وأن نطورها إلى الأحسن والأكثر تجاوباً مع العلم الحديث والاختراعات الجديدة.

Comments are closed.