September 1, 1983

الذي أعد مشروع القانون هذا يبدو وكأنه شخص قادم من المريخ، ولم يسمع بما حصل في البلاد منذ صيف 1982م، وإذا كان قد سمع فلا شك أنه لم يستوعب الدرس أو الدروس التي كان يجب استيعابها.

ويعتقد الكاتب أن سبب هذا القصور الكبير في تفكير الحكومة يعود أساساً إلى اختفاء الخبراء المختصين من أوساط الوزارات الاقتصادية كالمالية والتجارة والصناعة، وعدم توافر الخبراء الذين يجمعون بين العلم في القانون وفي الاقتصاد لدى وزارة الدولة للشؤون القانونية.

كما أن اختفاء مجلس التخطيط ساهم ويساهم بدرجة كبيرة جداً في عدم خضوع مشروعات القوانين المتعلقة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية لما تحتاجه من مراجعة وتمحيص وانتقاد، فالفكر الاقتصادي لا يوجد له منبر في أوساط الحكومة، وإنما يعتمد المسؤولون على الآراء الفردية والاستشارات الوقتية.

ولهذا نجد أن مشروع تنظيم سوق الأوراق المالية جاء مشروعاً مهلهلاً لم يأخذ في الحسبان ما حصل في البلاد من زلزال كاد يطيح بمؤسسات، ولم يستوعب الأسباب التي قادت إلى ذلك الزلزال، والتي كان من أهمها قصور الرقابة الفعالة على سوق الأوراق المالية بمختلف أشكاله، وانعدام العقاب الرادع للمتلاعبين فيه.

وأول سؤال أو تساؤل يمكن طرحه بالنسبة لمشروع قانون تنظيم السوق المالية المقترح هو: ماذا يفعل وزير التجارة والصناعة في لجنة السوق؟ ولماذا يرأس الوزير – وهو شخص سياسي – لجنة دائمة عملها فني بحت ولا علاقة له بالمسؤولية الوزارية؟ ولماذا يترأس الوزراء كل لجنة يمكن أن تحتاج البلاد إلى عملها؟ إن لجنة الأوراق المالية تشبه إلى حد ما لجنة المناقصات، وهذه الأخيرة لا يرأسها وزير، وإنما يرأسها شخص متفرغ لها تكسبه الممارسة خبرة خاصة بعملها، وهكذا يجب أن يكون عمل لجنة الأوراق المالية؛ أي أنه عمل فني له صبغة قضائية، ويمارس شاغل المنصب فيه رقابة مستمرة تتطلب تفرغاً تاماً، ولهذا يجب أن يبتعد الوزراء عن شغل مثل هذه المناصب، فلا وقتهم ولا مسؤولياتهم الوزارية ولا تخصصهم يؤهلهم لشغلها.

ولا يعرف الكاتب أي بورصة في العالم المتقدم الذي توجد به أسواق متطورة للأوراق المالية، يرأسها وزير، فلا لندن ولا نيويورك ولا فرانكفورت ولا زيورخ ولا باريس ولا طوكيو ولا سنغافورة، وحتى في بلادنا العربية لا بيروت ولا القاهرة ولا تونس ولا الدار البيضاء.. فماذا نشذ نحن عن القاعدة، وكأن البلاد قد خلت من القدرات البشرية، فأصبح مكتوباً علينا أن نعين الوزراء في غير الأماكن التي يصلحون لها، ونخلط بين مسؤولياتهم السياسية التي يفترض أنهم قادرون على ممارستها، والمتطلبات الخاصة والمتخصصة التي تحتاجها الدولة في مختلف مجالات نشاطها (وبهذه المناسبة؛ فإن نفس الانتقاد يجب أن يوجَّه إلى رئاسة وزير المالية لمؤسسة الأسهم المباعة بالأجل).

وثاني تساؤل هو لماذا يطلب من الوزارات أن ترشح أحد موظفيها ليكون ممثلاً في اللجنة المقترحة؟ المعروف لدى جميع من عمل في الحكومة أن المندوبين هؤلاء لا يشكلون أي ثقل في حسابات الوزارة، وتلجأ الوزارات عادة إلى التخلص ممن تعتبرهم مشاغبين فترسلهم إلى عضوية اللجان.

وكذلك لماذا ترشِّح غرفة التجارة والصناعة أعضاء عنها يمثلون القطاع الخاص؟ أليس القطاع الخاص العامل في تجارة الأسهم هو المطلوب مراقبته وتنظيم عمليات المضاربات التي يقوم بها؟ كيف يطلب من الخصم أن يكون هو الحكم؟

إن هذه من الأخطاء المستمرة التي تصر الدول على ارتكابها منذ أن بدأ تنظيم الإدارة الحكومية، ولقد ضرب الكاتب أمثلة سابقة على ذلك، لا بأس من التذكير بها؛ فمثلاً لجنة تنمية الصناعة تضم أعضاء يعملون في الصناعة، ومطلوب منهم أن يصدروا أحكاماً تتعلق بمنافسيهم في الصناعة، وأن يتحلوا بصفات الملائكة حتى يحافظوا على الحياد، وفي أوائل السبعينيات كلف أربعة من المقاولين بعضوية لجنة اختيار المستشارين، والمستشارون الهندسيون مطلوب منهم بالطبع الإشراف على أعمال المقاولين ومراقبتها، وآخر مثال فاشل هو لجنة الأوراق المالية القائمة الآن أو اللجنة التي شكلت للإشراف على الشركات الخليجية، وكان أعضاؤها هم كبار العاملين في الشركات الخليجية.

إلى متى تستمر الدولة في إسناد مهمات رقابية وشبه قضائية إلى نفس الأشخاص الذين وجدت اللجان الرقابية وشبه القضائية أصلاً لمراقبتهم؟

وإذا كان الرد على ذلك هو: من أين نأتي بالأعضاء، والبلد صغير والكفاءات فيه محدودة؟

فإن الجواب واضح وضوح الشمس..

كيف تم اختيار أعضاء هيئة التحكيم في معاملات الأسهم؟ ألا يمكن اتباع نفس الأسلوب في اختيار أعضاء لجنة الأوراق المالية؟ هل يعجز مجلس الوزراء عن اختيار لجنة مكونة من سبعة أشخاص تتفرغ تفرغاً تاماً لعملها وتكون لها مخصصات مجزية وجهاز قانوني ورقابة دقيقة، وتشبه في تكوينها وفي عملها لجنة الأوراق المالية التي تشرف على سوق نيويورك أو لندن أو زيورخ أو غيرها من الأسواق والمراكز العالمية المالية، ولا تدين بالولاء لأحد سوى القانون الذي تتشكل اللجنة بموجبه؟

وتشكل الرسوم التي تفرضها على المعاملات المالية دخلاً مستقلاً لها دون أن تلجأ إلى الدولة لمواجهة ما تحتاجه من مصروفات.

ألا يكفي ما حصل حتى الآن لنستخلص منه العبر، ونحاول أن نغيِّر من الأسلوب القديم الذي كان يقوم على العشم ومبدأ “شيِّلني وأشيلك وانفعني وأنفعك”؟

نحن الآن دولة حديثة تحكمها قوانين، وبها مواطنون ذوو مصالح مختلفة ومتضاربة، ولا يمكن الاستمرار في إدارة الدولة كما لو أنها ديوانية أو قبيلة.. فهذا ضد منطق التطور وضد مفهوم الدولة الحديثة.. ولا يحمي مصالح الناس أن يشعر الناس بأن الخصم والحكم هو نفس الشخص، كما أن أزمة السوق التي عصفت بالبلاد جعلت من الضروري اللجوء إلى العقود المكتوبة، وأحكام الرقابة القانونية، وفرض العقوبات الردعية من قبل هيئة موثوقة لا يرقى الشك إلى نزاهتها وحيادها؛ مما يجعل اختيار أعضائها أمراً ليس بالسهل ولا بالهين، ولكنه ليس بالمستحيل.

وكما ثبت أنه لا توجد صفات خاصة تميز السوق الكويتية عن غيرها من الأسواق، فإن الحكمة تقتضي أن نستعين بتجارب الأمم الأخرى وقوانينها المجربة، فالبشر هم البشر سواء لبسوا عقالات أو قبعة أو مشوا فارعي الرؤوس.. والعقوبات الردعية القاسية لا بد منها لحماية حقوق الناس ووأد التدليس والتلاعب والكسب غير المشروع، وهذه العقوبات مطلوبة هنا أكثر من حاجتنا إليها لمعاقبة الشاب الخاطب الذي قبَّل خطيبته في سيارته فحُكم عليه بالسجن لأنه خدش الحياء العام.. أما استغلال النفوذ والتلاعب بمصالح الناس فلا يبدو أنه يخدش الحياء العام!

Comments are closed.