May 6, 1982

لا يمكن تقدير أهمية مصر بالنسبة للعرب، إلا بإلقاء نظرة ولو سطحية على الواقع العربي المعاصر.. أينما ينظر المرء، يرى أشلاء تتطاير، وحدوداً تُغلق، وشتائم تجزع منها أسلاك الأثير، وحروب الطوائف مشتعلة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر (مع الاعتذار لأحمد سعيد، و”صوت العرب”).

ويرى أنظمة عربية فاقت كفاءتها في قمع شعوبها أي تصور، ويرى اللغة العربية تفقد معاني مصطلحاتها؛ بحيث أصبح الشارع العربي لا يفهم معنى الوطنية والخيانة والديمقراطية والعمالة، وغير ذلك من الصفات التي يحفل بها قاموس التعامل السياسي بين الحكام العرب، وأنا أنصح كل من بقيت فيه ومضة غيرة على المصير العربي أن يعود لقراءة تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس ليرى كيف يعيد التاريخ العربي نفسه.

ومرة أخرى؛ أنا لست هنا في مجال إبداء الرأي فيما جرى منذ زيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس، وما تبع ذلك من اتفاقيات “كامب ديفيد”، فهذا الأمر قد دخل التاريخ، وأبدت الأمة العربية رأيها فيه في آخر المؤتمرات العربية التي ضمت جميع رؤساء الدول العربية؛ وهو مؤتمر قمة بغداد، كما أن سير الأمور منذ ذلك الوقت، وتصرف “إسرائيل”، حتى الآن يوضح بما لا يقبل الشك، أن “إسرائيل” نفسها لا تهدف إلى السلام، وإنما إلى الاستسلام العربي وبناء إمبراطورية جديدة، وهذه الإمبراطورية لا يمكن إقامتها اعتماداً على أرض فلسطين فقط؛ إذ لا بد لها من التوسع، وإلى الحصول على موارد جديدة، وإلى الاستمرار في فرض الجزية على يهود العالم، ولا بد لها كي يبقى المجتمع “الإسرائيلي” متماسكاً أن تكون على أهبة القتال، وتبحث عن الحروب في أي مكان؛ وإلا انفجرت التشكيلة الغريبة من أجناس العالم الذين يعتنقون الدين اليهودي ويشكلون سكان “إسرائيل”.

هذه هي “إسرائيل” الحقيقية التي لن تكتفي حتى بضم الضفة الغربية وقطاع غزة إليها؛ لأن أرض فلسطين – كما أسلفنا – لا تكفي لإقامة الإمبراطورية الجديدة، و”إسرائيل” هذه تسخِّر معها أمريكا، وتؤثر تأثيراً واضحاً في أوروبا، و”إسرائيل” هذه وقَّعت مع مصر اتفاقاً نترك الحكم النهائي عليه للتاريخ، إلا أنه حقيقة واقعة.. وقد أدى ذلك الاتفاق إلى انسحاب “إسرائيل” من سيناء طوعاً بعد أن عجز العرب عن إخراجها من أي أراض احتلتها حرباً.

هذه هي الحقائق الآن..

ماذا نعمل.. ونحن نرى الضياع الضارب أطنابه في الربوع العربية؟

إن وزن مصر الحضاري والعسكري والثقافي والسكاني كان من الأمور المسلَّم بها، ومشكلة الأمور المسلَّم بها هي أن الناس يفترضون وجودها المستمر، إلى أن يفاجَؤوا ذات يوم بإمكانية تلاشيها، وهو ما حدث منذ زيارة القدس، حيث اختفى صوت مصر ودورها في تقرير مصير هذه المنطقة، وظن العرب في قمة بغداد أن بإمكانهم سلوك طريق مستقل من غير مصر، وكانت البدائل المتاحة في ذلك الوقت مغرية نوعاً ما، فقد لاحت في الأفق يومئذ إمكانية وحدة سورية والعراق، وكانت أموال النفط في أوج مجدها.. والآن فإن العلاقات بين سورية والعراق تثير في نفس العربي أوجاعاً لا يعادلها إلا وجع ضياع فلسطين، بل إن الخوف الذي يداخل النفس العربية من صراع سورية والعراق يقذف بنا إلى المجهول المظلم والمخيف، وكأننا نعجل بنهايتها بأنفسنا.. أما أموال النفط ومجدها فلا داعي لإضافة المزيد حول ما حلَّ بها وحول قدرتها على التأثير في المحافل الدولية، أو استعمالها كسلاح للضغط، ومنذ مؤتمر بغداد لم يكتمل نصاب أي مؤتمر بعده، فمؤتمر عمَّان قُوطع من قِبَل 6 دول، ومؤتمر فاس انفجر من الداخل.

وكلما قلنا: إن وضعنا قد بلغ من السوء بحيث إنه لا يمكن أن يزداد سوءاً؛ اكتشفنا أعماقاً جديدة للانحدار!

إذ لا بد من عودة مصر إلى الصف العربي، وعودة مصر لن تكون كعصا الساحر الذي يأتي بالمعجزات، ولكنها ربما كانت البلسم الذي يخفف من الجروح والآلام.

وهي جروح تستشري في جسم الأمة العربية بما فيها مصر.. وعودة مصر ستعني تدخلاً عربياً في الحرب العراقية الإيرانية، كما ستعني تخفيفاً على مصر وعلى عرب النفط من الاعتماد المفرط على أمريكا، وهو اعتماد المكرَه، لا البطل؛ إذ إن اتكاءهما على بعضهما سيخلق سنداً وعضداً لهما معاً في مواجهة القوى العظمى التي تنتظر الفريسة كي تأخذ نصيبها منها.

كيف تكون عودة مصر؟

يتداعى هذه الأيام عدد من المفكرين العرب للاجتماع والبحث والتشاور في هذا الموضوع، الذي أخشى أن يتحول إلى مشكلة تضاف إلى قائمة المشكلات العربية المعاصرة.

وإلى أن يتم ذلك، ويأتي هؤلاء المفكرون بخلاصة أفكارهم؛ أود أن أطرح طريقاً عملياً يحفظ ماء الوجه للطرفين، وماء الوجه بالنسبة للعرب مهم جداً، بل وأكثر أهمية من تلقي الإهانات الحقيقية والهزائم المروعة، وهذا الطريق هو في رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي الحالي مع مصر، فالذي لا يعرفه الكثيرون أن السفارات المصرية لم تُغلق في البلاد العربية، وكذلك السفارات العربية في القاهرة، والذي حدث هو سحب السفراء وتبديل الأعلام فقط، أما باقي الموظفين والأجهزة فلا تزال موجودة كما كانت، وهذه هي الأمور الشكلية التي نهتم بها وننسبها إلى حفظ ماء الوجه.

إذن لنبدأ بإرسال شخصيات على رأس تلك السفارات بدرجة سفراء دون تسميتهم بذلك، تماماً كما عملت الولايات المتحدة حين بدأت علاقاتها مع الصين قبل الاعتراف الرسمي المتبادل، ففتحت مكتباً وأرسلت على رأسه شخصاً غاية في الأهمية، وذلك الشخص لم يكن سفيراً بالمعنى البروتوكولي، ولكنه كان أهم من ذلك بالمعنى الواقعي والحقيقي، وهو اليوم نائب رئيس الولايات المتحدة.

وهذا الطريق سيمكن العرب من إعادة الاتصال مع مصر – بمستوى عملي معقول – دون الدخول في مهاترات حول من يبدأ وعلى أي شروط وأي أسس، أما عودة مصر إلى الجامعة العربية فأمر ليس له أهمية، فالجامعة العربية انتهت في حقيقة الأمر، وليس فينا من يجرؤ على مواراتها التراب، ولا بأس من بقائها – على الأقل – كأرشيف نحفظ به أوراقنا العربية، وكرمز لما كان يمكن أن يحدث، بالإضافة إلى ما تقوم به من أعمال فنية ذات فائدة كبيرة في المجال الاقتصادي والاجتماعي.

وبهذا نستطيع أن نحفظ ماء الوجه في عدم تبادل التمثيل الدبلوماسي مع مصر مع وجود سفارة لـ”إسرائيل” في القاهرة، إذا كان هذا هو المشكل الرئيس، ومن هنا نكسر الحاجز النفسي الجديد الذي نشأ بين العرب ومصر، في أعقاب اتفاقيات “كامب ديفيد”.

وتكون هذه هي الخطوة الأولى الضرورية لعودة العلاقات، فمصر الآن تشكل ساحة حرب مكشوفة، الولايات المتحدة و”إسرائيل” تريدان لمصر أن تبقى معزولة عن العرب، وهما في سبيل ذلك تحاولان ربط المساعدات الأمريكية الكبيرة المخصصة لمصر، بتطور السياسة المصرية تجاه العرب، أو هذا ما تهدف إليه “إسرائيل” على الأقل، ويجب في المقابل أن يتقدم العرب لمواجهة هذا التحدي الجديد، ومصر تستحق أن نحارب من أجلها بعد أن حاربت هي من أجلنا.

كما أن هناك سبيلاً آخر لتكثيف الاتصال مع مصر، وهو سبيل الأفراد الذين يرتبطون بمصر بعلاقات متنوعة، فما أكثر ما لجأت الدول إلى مواطنيها غير الرسميين للقيام بأعمال وخدمات لبلادهم يصعب على الرسميين القيام بها!

ولقد بدأت الصحافة الكويتية في اتخاذ الخطوة الأولى لفتح الحوار من جديد، وإيجاد وسائل الاتصال مرة أخرى، وأصبح رؤساء التحرير ومديرو التحرير والمحررون العاديون رسل سلام وتفاهم بين الأشقاء المتخاصمين.

وأنا من الذين يؤمنون بانعدام الحكمة في قطع العلاقات الدبلوماسية أياً كان السبب، فالدول تحتاج إلى الاتصال ببعضها، وخاصة إذا تأزمت علاقاتها، وتبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدول لا يعني وجود صداقات بينها، ولا يعني إقراراً بسياساتها، ولكنه يعني إبقاء قنوات مفتوحة للاتصال فيما بينها، يوم تشتد الحاجة لهذا الاتصال.

ومهما يكن، فلا بد من عقد المؤتمر المشار إليه، إذ يجب على الأمم وهي على مفترق الطرق أن تخضع أوضاعنا وعلاقة أجزائها ببعضها، للبحث والتمحيص والتحليل والتشخيص، ولعل مفكريها وعقلاءها يستطيعون إنارة السبيل في الوقت الذي ينشغل فيه الحكام بتصريف الأمور اليومية أو مواصلة المعارك المعتادة.

وعلى كلٍّ، فإن البادرة التي قام بها الحسين بن طلال، قد كسرت الحلقة المفرغة التي كانت تدور بها العلاقات المصرية العربية، ولقد رأى الحسين – ومثله الحسن الثاني – أن مصر وهي الأخ الأكبر لا بد أن ينتظر الخطوة الأولى من إخوانه، حتى ولو شعر هؤلاء أنهم لم يكونوا مخطئين، وتصرف الاثنان تصرفاً ملكياً حقاً، فبادرا بتهنئة الرئيس حسني مبارك على يوم جلاء “الإسرائيليين” عن سيناء، وهو يوم يهم العرب جميعاً؛ إذ إن مصر أصبحت أكثر حرية في استئناف دورها القيادي الذي لا يستطيع أحد غيرها أن يملؤه، وبقي علينا جميعاً أن نرتفع إلى مستوى المعركة الحضارية التي تواجهها الأمة العربية، التي لا يمكن دخولها دون وجود القيادة.

Comments are closed.