January 13, 1983

حسناً فعلت مصر بعودتها إلى المحيط العربي من أوسع أبوابه؛ أي من باب القضية الفلسطينية وعن طريق لبنان، ومن باب قضية الأمن الخليجي وعن طريق العراق.

وتصرف مصر هذا يدل على الحنكة السياسية المتوافرة في أوساط صانعي القرار فيها، ذلك أن دور مصر العربي تقرره مصر وحدها، ويجب ألا تنتظر سماحاً من أحد أو إذن دخول من آخر، فما دامت مصر قد أعلنت على رؤوس الأشهاد أن عروبتها ليست موضوع نقاش أو شك؛ فإن التطور المنطقي بعد ذلك هو عدم انتظارها حتى تحصل على قرار من مؤتمرات القم العربية يسمح بعودتها، ولقد أقر مؤتمر قمة فاس بصعوبة إصدار مثل هذا القرار، خاصة وأن قرارات القمة العربية تؤخذ عادة بالإجماع، ولعل هذا هو سر عدم فاعليتها؛ ولذلك فقد رأى أن يترك لكل دولة أن تتصرف منفردة في شأن علاقتها بمصر، وحتى الآن فإن وضع دول منظمة مجلس التعاون الخليجي يذكرنا بالمثل الشعبي المعروف: “مشتهية ومستحية”؛ ولهذا لم تحاول مصر أن ترفع من نسبة اتصالاتها بهم وتركتهم يقررون اختيار وقتهم.

إلا أن الحركة الذكية التي تحركتها مصر هي في اتصالها بلبنان والأردن والعراق، وهي الدول التي تحتاج إلى مصر في ظروفها السائدة، ولهذا سارعت مصر إلى مد يد العون العسكري والدبلوماسي والمعنوي إليها، ولا شك أن منظمة التحرير الفلسطينية قد وعت إلى دور مصر الإستراتيجي والأساسي؛ ولهذا تجدها عادت إلى الاتصال المباشر معها، وأجرت مختلف أنواع الحوارات مع المسؤولين المصريين، وليس سراً أن يقال: إن اتصالات منظمة التحرير الفلسطينية بمصر لم تنقطع أبداً، رغم النفي التقليدي الذي كانت تقابل به أخبار تلك الاتصالات.

ولقد كان واضحاً أن عودة مصر إلى الصف العربي، وبالتالي إلى القيادة العربية تواجَّه بمعارضة ضمت خليطاً عجيباً من التناقض السياسي والعقائدي! ولكن كان هناك عامل مشترك بينها وهو الاتفاق على عرقلة عودة مصر.

والخليط العجيب هذا ضم عرباً يختلفون مع خط مصر في علاقاتها مع “إسرائيل” وما أقدمت عليه في اتفاقيات “كامب ديفيد”، وضم عرباً آخرين اعتقدوا أن دور القيادة الذي حط في أيديهم بالصدفة، وهو دور دائم؛ ولهذا فهم لا يرغبون في منافسة مصر لهم، وضم نوعاً ثالثاً من العرب استفادوا مادياً من وجود مصر خارج نطاق العمل العربي المشترك الرسمي، ولكن المستفيد الأكبر من عدم عودة مصر رسمياً إلى المحيط العربي هو بلا شك الولايات المتحدة ومن ورائها “إسرائيل”.

فالولايات المتحدة لا تريد مواجهة عالم عربي موحد وبقيادة مصرية قوية، إذ إن هذا قد يجبرها على اتخاذ سياسات ومسالك لا ترغب في اتخاذها، مجاراة ومجاملة لـ”إسرائيل” ولقوى الضغط اليهودية في الولايات المتحدة.

و”إسرائيل” كذلك لا تريد مثل هذه المواجهة، وإنما هي ترغب (وتحققت رغباتها) في احتلال البلاد العربية واحدة بعد الأخرى، وعدم الجلاء عنها حتى توقع معها معاهدة صلح مفروضة بالقوة، وهو ما نشاهده الآن في لبنان، وربما جاء دور الأردن بعد ذلك، ومن يضمن عدم مجيء دور سورية بعدها؟!

ولا شك أن كثيراً من زمام المبادرة لا يزال في يد دول مجلس التعاون الخليجي.

وتستطيع هذه الدول أن تحسم الوضع المائع الذي تعيش به الأوضاع العربية الآن، والذي لا يخدم أحداً سوى “إسرائيل”، وذلك بأن تعلن عن عودة علاقاتها مع مصر وبأسرع وقت ممكن، ذلك أننا يجب أن نحسن استخدام الأوراق الرابحة الموجودة في أيدينا، وإلا فإننا سنكتشف مع مرور الوقت أن ما كان ورقة رابحة قد فقد بريقه وفاعليته، ما لم يتم استخدامه في الوقت المناسب.

وعودة مصر العربية ستنفخ روحاً جديدة، وتأتي بنفح طازج في الأوضاع العربية، وستعيد الشعور القومي إلى مشاعر الجماهير التي تعاني من الضياع واليأس.

وما عملته مصر في علاقاتها مع “إسرائيل” يشبه إلى حد كبير ما عمله صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين حين سلمهم القدس في وقت لم يكن باستطاعته أن يحافظ عليها عسكرياً، ولكنه عاد بعد بضع سنين إلى استعادتها حين عادت إليه القوة.

وهكذا شأننا مع اليهود، وهم يعرفون ذلك، ويجب أن نعرفه نحن كذلك، ولقد تحققت نبوءة المحللين السياسيين في علاقة مصر بـ”إسرائيل”؛ إذ إن الاندفاع الذي حصل في عصر السادات أمر غير طبيعي وغير منطقي؛ ولهذا نجد الأمور عادت إلى نصابها ووضعها الطبيعي، حين تجمدت العلاقات الرسمية، وزال أثر العلاقات غير الرسمية التي حاولت الحكومة المصرية وحكومة “إسرائيل” تنميتها في عصر السادات.

ولهذا؛ فالواجب الآن الارتقاء عن الشكليات والارتفاع إلى مستوى المسؤولية في علاقة العرب بمصر، رغم أن مصر لم تنتظر الإذن لها بممارسة دورها العربي، وعادت إليه عودة البلسم إلى الجرح.

والقيادة في آخر المطاف لا تُعطى ولا تُمنح، وإنما تُنتزع وتُؤخذ.. ويبدو أن مصر عازمة على استئناف دورها التاريخي بغض النظر عن موافقة الأطراف الأخرى أو عدم موافقتها، وهذا هو قدر مصر كما أسلفنا ذكره في صفحات سابقة.

Comments are closed.