في الصفحات السابقة ضرب الكاتب مثلاً على أسباب عودة الثقة إلى السوق المالية في لندن.. وللتذكير؛ فإن المقال كان يتعلق بعودة المسز تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية، من رحلتها التي قامت بها إلى دول الخليج، ولما أطلت من الطائرة في مطار لندن التقطت لها الكاميرات صوراً تشع بالبهجة وتوحي بالثقة، وانتقل هذا الإحساس إلى الناس، فإذا بالسوق المالية تتحرك صعوداً، وإذا بالأسهم تخرج من جمودها!
إذاً فالعامل النفسي يؤدي دوراً مهماً جداً في إشاعة الثقة بين الناس، وبمجرد حصول ذلك نجد أن تصرفاتهم المتأثرة بالثقة تنحو منحى إيجابياً.
وفي موضوع أزمة السوق الكويتية تؤدي الثقة دوراً أساسياً يكاد يكون في بعض الأحيان الدور الوحيد.
والمراقب للسوق الآن يلاحظ انعدام الثقة واختفاءها، ويتلمس وجود تشاؤم ملحوظ بين أوساط المتعاملين في السوق الكويتية، وأهم أسباب عدم الثقة هي:
1- الوقت الطويل الذي مضى ويمضى منذ بدء الأزمة، وتلمس الحلول العملية والمعقولة، مع مراعاة الأدوار الأساسية لأطراف اللعبة، وضرورة أن يرى الناس أن الحكومة هي المحرك الوحيد إلى اتجاه للحل، ولم يكن هناك بد ولا يوجد مهرب من مرور الوقت قبل التوصل إلى الحل المعقول، فهذا هو ثمن الديمقراطية، وهو ثمن بخس يستحق منا أن ندفعه، والحل النهائي الذي سوف تتمخض عنه مناقشات مجلس الأمة سيكون حلاً ديمقراطياً يقبل به معظم الناس، بسبب كونهم ناقشوه من ناحية وبسبب عدم وجود أي طريق آخر للحل.
ولقد اتضح للجميع أن حل الأزمة مرَّ بمراحل تجريبية تمخضت في النهاية عن مشروع القانون المعروض على مجلس الأمة الآن الذي يعتقد الكاتب – حسب ما يبدو له في الظروف الراهنة – أنه مشروع معقول لا يحتاج إلى أكثر من رتوش هنا وهناك كي يقره المجلس، ويصبح بعد ذلك هو الأداة الرئيسة لحل الأزمة.
2- التذبذب الذي صاحب نشاط شركة المقاصة وقيامها بالدور الذي كان مفروضاً أن تقوم به، ثم لم تقم به، ثم عادت للقيام به، ثم.. ثم..
وهذا لا شك ساعد على انتشار جو التشاؤم والغموض، ومهد لإطلاق التفسيرات المختلفة حول نوايا الحكومة، والمطلوب هو أن تسلك الشركة طريقاً واضحاً لا تحيد عنه، ولا يكون متأثراً بالضغوط المختلفة التي تأتي من كل صاحب مصلحة.
أما هيئة التحكيم؛ فإن أسلوبها في معالجة الأمور يدل على سيطرة التعقل والحزم معاً، وضروري جداً أن يعرف الجميع أن التعقل لن يؤدي إلى اختفاء الحزم، ولقد دلت أحكام الهيئة الأخيرة على توافر عنصر الحزم؛ مما أجبر الكثير من المتلكئين على الوفاء بالتزاماتهم.
3- زاد من انتشار التشاؤم واختفاء الثقة تطورات الاقتصاد العالمي وهبوط أسعار النفط والحملة النفسية المكثفة في هذا المجال؛ مما أوجد شعوراً لدى الناس بأنهم محاصرون من كل جهة.
وعودة الثقة إلى السوق تتطلب الآتي:
1- أن يسرع مجلس الأمة في البت في مشروع القانون المقدم من الحكومة، ولقد لمس الكاتب تفهماً عميقاً للأزمة وتطوراتها في اللجنة التشريعية للمجلس، التي تضم عناصر من خيرة أعضاء المجلس، وذلك حين تشرف بالمثول أمامها لإبداء الرأي في مشروع القانون، ولا شك أن اللجنة تعكس صورة مصغرة للمجلس، وهذا يعني أن المجلس أيضاً لديه تفهم عميق للأزمة ومتطلبات حلها، ومتى ما عرف الناس أن مجلسهم متفهم للأزمة ومتعاطف مع الحلول المعقولة التي قدمتها الحكومة فإن هذا يخلق جواً نفسياً مطمئناً.
2- من الضروري أن يعرف الناس أن الحكومة متكاتفة في رأيها تجاه الحل المطروح الآن أمام مجلس الأمة، وحسب ما يبدو فإن الآراء متفقة عليه، ولا بد من أن يشعر الناس أن الوزراء المختصين ملتزمون بالحل وسيبذلون كل ما في وسعهم للدفاع عنه وتبريره أمام المجلس.
ومتى ما عرف الناس أن حكومتهم تسعى بقوة إلى إقرار ما اقترحته من حلول؛ فإن هذا يخلق كذلك جواً نفسياً متفائلاً.
3- أن من ضرورات عودة الثقة إلى السوق أن تنشر الحكومة مشروع القانون الذي ستقدمه إلى مجلس الأمة والخاص بتنظيم سوق الأوراق المالية الذي أهلك بحثاً من كل المختصين وغير المختصين، حتى يرى الجميع ما ستكون عليه الحال وحتى يكونوا على بينة من أمرهم.
4- لا بد من صدور بيان واضح وحاسم يحدد نظرة الدولة إلى الشركات الخليجية ويقر بضرورة احتوائها تحت المظلة الكويتية، وهذا سيعيد لها توازنها المختل حالياً، ويعيد للناس الثقة بأن الأسهم التي بحوزتهم ستكون لها قيمة معقولة غير قيمتها الحالية التي لا تمثل حقيقة موجودات تلك الشركات ومراكزها المالية، ويجب أن يكون معروفاً أيضاً أن هذه الشركات سيتم تداول أسهمها في السوق الرسمية للأوراق المالية، وإلا فبأي حق تطلب منها وزارة التجارة أن تتقدم لها بميزانياتها إلا إذا أصبحت تعتبرها بمثابة الشركات الكويتية التي يتم تداول أسهمها رسمياً، ويجوز رهن تلك الأسهم شأنها شأن الأسهم الكويتية، وهذا يتطلب صدور بيان بذلك، ذلك أن مجرد صدور مثل هذا البيان من شأنه أن يحدث مفعولاً سحرياً بالنسبة لعودة الثقة.
5- لا شك أن من الضروري أن ترفع الحكومة دعمها عن الأسهم الكويتية في وقت لا حق، ولكنه يجب أن يكون متطابقاً تقريباً مع إقرار مجلس الأمة للقانون المقترح، وربما أدى هذا إلى انخفاض في الأسعار، ولكنه سيكون بالتأكيد انخفاضاً مؤقتاً سرعان ما يزول حين يندفع المستثمرون لشراء الأسهم الكويتية بعد أن تكون قد نزلت في أسعارها إلى مستويات مغرية، وهذا بدوره سيعيد إلى السوق حياتها مرة أخرى.
6- والذي لا شك فيه كذلك أن السيولة متوافرة وموجودة لدى الناس، وسبل الاستثمار العالمي تضيق بهم يوماً بعد يوم، واتجاههم نحو الاستثمار العربي لا يزال بطيئاً رغم أنه إيجابي، ومعنى هذا أن العودة إلى سوق الأسهم ستكون عودة حتمية، ومعظم الأزمات المشابهة التي مرت بدول أخرى أدت في البداية إلى تجميد الأسعار في السوق ثم إلى انخفاضها ثم إلى عودة الحياة إلى السوق مرة أخرى حين يرى المستثمرون والمضاربون أن الأسعار أصبحت مغرية جداً لعودتهم إلى السوق.
والخلاصة هي أن الجميع قد استوعب دروس الأزمة، والواجب أن يرى الناس دلائل على استيعاب الحكومة للدروس عن طريق وضوح المواقف والتعجيل في طرح وتمرير الحلول والقوانين المنظمة لتعامل الناس؛ وذلك حتى يأتي استيعابهم هم لدروس الأزمة انعكاساً لاستيعاب حكومتهم.
وعودة الثقة في نهاية الأمر هي طريق ذو اتجاهين، شعارها: تفاءلوا بالخير تجدوه.