في ديسمبر 1982م صدر بيان شركة المقاصة الذي يدعو أصحاب الشيكات الذين أودعوا شيكاتهم لدى الشركة إلى مراجعة مكاتب الشركة لتسلم شيكاتهم حتى يقوموا بإجراء التسويات فيما بينهم، وأنهم إذا رغبوا فإن شركة المقاصة على استعداد للحلول مكانهم لتحصيل ديونهم.
وهذا البيان يطرح تساؤلاً مهماً هو: إذا كانت نهاية المشوار الطويل الذي بدأ في سبتمبر الماضي هي إرجاع الشيكات إلى الناس، وتركهم يحلون مشكلاتهم بأنفسهم؛ فلماذا تدخلت الحكومة أصلاً وعطَّلت مفعول الملاحقة القضائية، والسير الطبيعي للقانون؟ وأين اقتراحات وتوصيات غرفة التجارة والصناعة؟ وما موقعها الآن من الإعراب؟ وكيف يستطيع الناس تقييم وضعهم الحقيقي قبل تطبيق التفليسة على عدد من كبار المعاملين المتحفظ عليهم؟ ربما يقول قائل: إن الهدف من هذا القرار هو التخلص من جزيئات المشكلة على الطريقة “الكيسنجرية” قبل الوصول إلى بيت القصيد، وإن هذا القرار ضروري لوضع حد لاستهتار البعض من القادرين الذين تمنَّعوا عن الدفع بحجة انتظار الحل الشامل، فهؤلاء الآن معرضون للملاحقة القضائية، ولكن هل هم فعلاً معرضون للملاحقة القضائية، بينما القانون أجَّلها لمدة سنتين؟!
هذا القرار لشركة المقاصة جاء للمشكلة من بابها الخلفي وعالجها من الجزء، وكان المفروض أن تبدأ المعالجة بمواجهة الأصل وهو المتعاملون المتحفَّظ عليهم الآن؛ فيجري إنهاء أوضاعهم عن طريق تطبيق حل الغرفة عليهم، أو تخفيض النسب المقترحة إلى أقل مما جاء في حل الغرفة، ثم يصار بعد ذلك إلى تقييم وضعهم، وإشهار إفلاس من يفلس منهم، وحينها سيعرف باقي الناس كم هو مقدار الخسارة التي سيتحملونها جراء معاملاتهم مع المفلسين، وبعد ذلك سيقوم الجميع بترتيب أوضاعهم وعلاقتهم مع الغير على أساس ما سيحصلون عليه من التفليسة، وهل ستصبح قيمة دينارهم نصف دينار أو 200 فلس أو أكثر أو أقل.
والمفروض كذلك أن تكون الحكومة بكاملها على دراية وإلمام بالخطوات التنفيذية التي تتخذ لمواجهة الأزمة وحلها، وأن تتم دراسة الاحتمالات التي تترتب على السير خطوة معينة قبل اتخاذ تلك الخطوة وفرضها كأمر واقع.
فأهمية الأزمة ليست بحاجة إلى تأكيد، وقد عاد الكاتب من رحلة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ولمس قلق الناس هناك على الكويت، وكيف أنها انشغلت بمشكلتها عن دورها الريادي والبناء في السياسة العربية، وكيف أن ساستها ورجالها وتجارها ومفكريها وقعوا فريسة هذه الأزمة الطاحنة التي لا يزال البعض يحاول التقليل من شأنها وحجمها وأثرها على كيان البلاد ومستقبلها.. فالوضع يبدو من الخارج غريباً حقاً، والناس هناك يتساءلون عن فلسفة التدخل الحكومي وما هدفها؟ وهل هي خطوات محسوبة ومدروسة أم أنها قرارات يتم اتخاذها في حينها؟ وإذا كانت خطوات مدروسة فهل يستطيع أحد أن يرى نهاية الطريق الذي تنتهي إليه الأزمة؟ أما إذا كانت خطوات يتم اتخاذها في حينها فالمصيبة أعظم.
ذلك أن ترك الناس يفكون ارتباطهم وحدهم، ويتنازلون لبعضهم بعضاً، ويرتضون حل غرفة التجارة والصناعة (الذي أصبح الآن باهتاً وكأن الجهات الرسمية المختصة تحاول عن قصد تجاهل ما جاء فيه من توصيات)، ويلجؤون دون مساعدة وتوجيه أحد إلى الصلح الواقي من الإفلاس الذي طرحه الحل يفترض افتراضاً بطولياً وهو: أن أخلاق الناس متشابهة بل ومتساوية.. وهذا غير صحيح.. فالقصص التي تروى هذه الأيام تتحدث عن جشع وأنانية لا مثيل لهما، فمثلاً استطاع أحد المعسرين المشرفين على الإفلاس تخفيض مديونيته تخفيضاً كبيراً تجاه زملائه الواقعين في نفس الورطة، فلما سمع دائنوه الآخرون أعلنوا أنه ما دام قد حصل على هذا التنازل وخفض مديونيته فإنهم بالتالي يطالبون بكامل استحقاقاتهم دون التنازل عن “قمري”!
وهذا النوع الرديء من البشر موجود الآن بكثرة، ولن يثنيه عن موقفه الهدام ضغط معنوي أو أدبي من غرفة التجارة والصناعة وكل ما تمثله.. ومن تمثله.. وهؤلاء لم يذهبوا إلى الغرفة للتوقيع على تفويضها بالحل باعتبار أنهم دائنون فقط ولا يهمهم غير ذلك، كما أن التناقض في التصريحات الحكومية يشجعهم على التمادي في مواقفهم (وليأتِ من بعدهم الطوفان)! وهناك أناس آخرون أخفوا شيكاتهم في الخزائن كي يطالبوا بها بعد سنتين، وهي المدة التي حدَّدها القانون لسريان مبدأ بطلان الملاحقة القضائية، ومن هؤلاء من لا يعتبر فوائد 100% وما فوق التي حصلت في صفقات المدد من الربا، ولكنه يعتبر الفائدة المصرفية العادية في البنوك ربا!
هذه طبيعة البشر، أما الكلام عن التكافل والتضامن والأسرة الواحدة فقد أصبح مجرد عبارات إنشائية تاريخية لا قيمة لها البتة.
ولهذا وجب على الحكومة أن تقوم الآن باتخاذ ما كان واجباً اتخاذه في سبتمبر 1982م، وهو إصدار تشريع خاص يعالج القضية بكامل أبعادها وبالطريقة الواضحة والبسيطة التي أعلنها وزير التجارة والصناعة في ذلك الوقت؛ أي تخفيض المديونية بقوة القانون إلى السعر الأصلي زائداً 20% وإيقاف مفعولها عند تاريخ معين كما جاء بالقانون الأعرج الذي صدر بهذا الشأن وعالج أوضاع فئة واحدة من الناس وترك الباقي لشأنهم، ويصار بعد ذلك إلى احتساب فائدة مصرفية عادية على مدة التأخير المنقضية على الشيك حتى صدور القانون، وتتخذ بعد ذلك الإجراءات التي جاءت بمقترحات غرفة التجارة والصناعة كالتأجيل ستة أشهر بفائدة، واستحداث جسر تمويلي يقبل الرهونات على شكل أسهم كويتية وخليجية وعالمية وعلى شكل عقار وأراضٍ، وحلول جهة مركزية كشركة للدائنين، ويتم تحديد ذلك بالقانون ولا يُترك للمزاج الفردي.
إن لبنان حين واجه مشكلة بنك إنترا – وهي مشكلة لا تقاس بأي شكل من الأشكال بالمشكلة الكويتية – أعلن حالة الطوارئ، وأصدر تشريعات خاصة تغطي المشكلة ولم يترك جانباً منها للأفراد والحلول الطوعية، فليست هناك حلول طوعية في مثل هذه الظروف، وإنما توجد فقط حلول جبرية.
ولا شك أن الجو في مجلس الأمة أصبح الآن مستوعباً لأبعاد المشكلة، واختفت العبارات الحماسية التي واجهت محاولة الحكومة الأولى لإصدار التشريع الخاص بصندوق ذوي الدخل المحدود الذين لا تزيد استحقاقاتهم على مليوني دينار أو 7 ملايين دولار.
وإذا عزمت الحكومة على إصدار مثل هذا القانون فلا شك أنها لن تفقد وقتاً طويلاً في المجلس بعد أن بانت للجميع أبعاد الأزمة وصعوبة تركها للهواة والمتطوعين وذوي النيات الحسنة الذين يتناقص عددهم يوماً بعد يوم.
المطلوب الآن قانون يحسم الأمر ويُنهي المشكلة بجرة قلم، ويعيد للبلاد عافيتها وللناس قدرتهم على التفكير وعلى الحديث في موضوعات أخرى، أما اللجوء إلى الحلول الجزئية وتقطيع القرارات بطريقة ترتفع بأعصاب الناس إلى العلا فترة ثم تهوي بها إلى القاع فترة أخرى ويستبشر الناس خيراً، ثم يتمخض الجبل فيلد فأراً؛ فإنها تؤدي إلى تعميق الأزمة وإلى فقدان الثقة في القرارات الحكومية نفسها.
ورغم أن الكاتب سبق وأن أعلن عدم استعداده لتصديق نظرية المؤامرة الخارجية التي يتحدث عنها أهل الخليج التي ذكرها الأستاذ محمد مساعد الصالح بجريدة “الوطن”، وسمع عنها الكاتب في رحلته الأخيرة إلى الإمارات العربية المتحدة، والتي جمدت قدرات الكويت وشلت من فاعليتها، فإن الشك قد بدأ يداخله الآن في صدق هذا الرأي.
إن الوزراء جميعهم مسؤولون عن هذا الوضع الشاذ الذي يتفاعل سلباً يوماً بعد يوم، ولا بد أن يكون لهم موقف حاسم وقوي يقود إلى إصدار تشريع خاص يعالج الأزمة بحجمها الحقيقي، كما أن غرفة التجارة والصناعة مدعوة مرة أخرى لترمي بثقلها وراء الحل الذي اقترحته بحيث لا يطويه النسيان والإهمال المتعمَّد.