لا شك أن ما حصل بالنسبة لموضوع سانتافي يفتح أمام الكثيرين أبواباً كانت مغلقة، ولقد حاول البعض – ومنهم الكاتب – إثارة موضوع الاستثمارات الكويتية وتركيزها في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان الجواب دائماً وأبداً أن حجم الأموال التي تشكل الاحتياطي الكويتي هي من الضخامة بحيث لا توجد سوق أخرى يمكن لها أن تستوعبها؛ ولهذا فلا بد من توجيهها إلى هناك.
وهذا كلام مردود عليه.
فالبلاد العربية التي كانت تعاني من نقص في الدراسات والمشروعات المختلفة والمتعددة من صناعية إلى زراعية إلى عقارية أصبحت الآن تعاني من تخمة في الدراسات والمشروعات، ولكنها تقاسي من انعدام التمويل الكافي ومن انعدام الاهتمام اللازم.
وهناك البلاد الصديقة أو القريبة وبالذات منطقة جنوب شرق آسيا حيث النمو الكبير الذي تشهده المنطقة، وفيها من المشروعات والمجالات الاستثمارية ما لا يعد ولا يحصى.
وهناك أمريكا اللاتينية حيث مناطق النمو الكبير كالبرازيل وغيرها.
لا يعني هذا أن هذه المناطق هي مناطق آمنة غير محفوفة بالأخطار؛ إذ لا يوجد الآن أمان في أي مكان، وصاحب المال يواجه مشكلة كبيرة في كيفية توظيف ماله.
ولكن.. يبقى عنصر مهم وهو أن الاستثمار في المناطق التي ذكرناها يتطلب أنواعاً خاصة من البشر، يتمتعون بأفق واسع، ونظرة إستراتيجية بعيدة المدى، ويكونون بعيدين عن عقلية التاجر المضارب وهم يديرون المحافظ الاستثمارية الضخمة، ويعتمد على حسن تصرفهم أو سوئه مستقبل البلاد وعلاقتها مع الآخرين.
وهذا النوع الخاص تطرقت إلى ذكره الخطة الخمسية الأولى للبلاد والتي أعدت عام 1967م، وفيها فصل خاص اسمه “قطاع المال والرجال”، وقالت الخطة: إنه سيأتي وقت تجد فيه البلاد نفسها مضطرة لكي توفد رجالها المختصين لرعاية أموالها المستثمرة في الخارج، وإن الكويت مكتوب عليها أن تكون بمثابة رجل الأعمال للمنطقة؛ ولهذا لا بد أن يتجه التعليم العالي إلى إنتاج مثل هذا النوع من البشر المتمتع بثقافة عالية وإدراك واسع وحس قومي عميق.. فبدون هذه الصفات سوف تتغلب عقلية التاجر المضارب على عقلية المستثمر الإستراتيجي.
والآن هل نجحنا بالفعل في خلق هذه الكوادر المتميزة؟ الجواب بالنفي، ولا يعني هذا عدم وجود عدد من الأفراد ذوي باع طويل في مجال الاستثمار، ويتمتعون بخبرة كبيرة فيه، ولكننا لم نصل بعد إلى مرحلة تخرج العدد الكافي من هؤلاء وتسليمهم مقاليد الأمور في اتخاذ القرارات الاستثمارية، فلا تزال مقاليد هذه الأمور في قضايا الاستثمار محكومة بأسس وقواعد خاصة، بعيدة بعض الشيء عن قواعد الكفاءة والقدرة؛ الأمر الذي يحد من التوسع في تهيئة وتوظيف الأعداد الكافية المطلوبة لرعاية الاستثمار، وربما استطاعت الهيئة الجديدة للاستثمار أن تخرج عن الطوق وتجتذب العناصر البشرية الكويتية اعتماداً على كفاءتها وقدرتها المهنية فقط، فيما يتعلق بتوافر العدد الكافي من البشر المختص في إدارة شؤون الاستثمار.
فإذا جئنا إلى سياسة الاستثمار نفسها، نجد أنها تتقرر وتتحدد في أجواء شبه سرية، فلا يعرف أحد اتجاهاتها ومنحاها إلا على شكل أخبار فجائية تطلق بين الآونة والأخرى على سبيل العلم بالشيء، أما هل نوقشت القرارات الاستثمارية ودرست وتم استعراض نتائجها؟ فجواب ذلك لا يعلمه إلا المختصون، وربما قاموا بالفعل بمثل هذه الدراسات، ولكن كان من الأجدر أن تشترك قطاعات عديدة في مناقشة التوجهات والسياسات الاستثمارية بشكل عام وضمن الخطوط العريضة الإستراتيجية لها، وهذا في رأي الكاتب لا يمكن أن يتم في أروقة الوزارات المختصة فقط، فالوزارة يحكمها الوزير، وإذا كان لدى الوزير توجهات معينة، فإن من الصعب على موظفيه أن يقفوا أمامه.
من هنا يبدو الفراغ الكبير الذي خلفه مجلس التخطيط وغيابه منذ عام 1979م، فمجلس التخطيط كان هو المنبر الحر الذي تخضع فيه كل الأمور وكل السياسات وكل القرارات لمناقشات حرة مفتوحة، ولم يكن هذا يعني أن الحكومة تأخذ بكل ما يدور من آراء وما يطرح من أفكار، ولكنها كانت تجد في مجلس التخطيط المتنفس الذي تطرح فيه الأفكار الضرورية غير الشعبية، ويخضع فيه الوزراء لمناقشات لا تشوبها المجاملة، ولا يطغى عليها خوف الموظف من رئيسه، وتقلب فيه الأمور ذات اليمين وذات الشمال، أما الآن فماذا نجد؟
تجد مجلساً أعلى للبترول.
ومجلساً أعلى للاستثمار.
ومجلساً أعلى للإسكان.
ومجلساً أعلى لحماية البيئة.
ومجلساً أعلى للتعليم المهني.
ولجنة عليا للمخطط الهيكلي.. والبقية تأتي..
أي أن القضايا التي كانت تبحث في مجلس التخطيط من منطلق قومي وشامل تفتتت، وتجزأت، وأصبحت موكولة لأجهزة لها شخصيتها الخاصة، ولها بالطبع تفكيرها المستقل، بحيث ضاعت النظرة الشاملة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية التي كانت من أهم واجبات مجلس التخطيط.
ولهذا، وفي غياب مجلس التخطيط، لا بد أن يتولى مجلس الأمة مباشرة خلق الحوار المثمر والبنَّاء حول هذه القضايا المصيرية، ولا بد أن يطرحها للمناقشة والحساب المستمر، فالشعب انتخب المجلس لمثل هذه القضايا، وربما اكتشف الناخبون الآن أن المفروض هو أن يكون النائب على دراية كافية ووعي كاف للتصدي لمثل هذه الأمور، لا أن ينتخبوا نواباً كل مزاياهم تتلخص في قدرتهم على مراجعة الوزارات وتخليص معاملات ناخبيهم، فالوقت الآن ليس وقت تخليص المعاملات، ولكن وقت التبصر وفتح العيون للمشاركة في القرارات المصيرية التي تلوح في الأفق التي ستُقْدِم عليها البلاد إن عاجلاً أو آجلاً، وهذه القرارات تتطلب أن يشارك فيها ممثلو الشعب، وتتطلب من الشعب نفسه أن يحسن اختيار ممثليه.