لا شك أن الذي حصل في سوق الأسهم والأوراق المالية كان صدمة غاية في العنف للكثير من الناس، فمنهم من فقَدَ الملايين، ومنهم من فقَدَ الألوف التي كانت تشكِّل كل ما يملك، ومنهم من فقد أعصابه، والبعض – لا شك – قد فقَدَ عقله!
ولقد جاء الحل الذي توصل إليه الجميع، بمثابة الحل الوحيد الممكن في مثل هذه الظروف، فالعجز الذي كان ماثلاً نتيجة إجراء حسابات أولية في المداولات والمعاملات التي تمت منذ عام تقريباً، كان عجزاً كبيراً، ولم يكن ممكناً معالجته إلا بحل جذري وطوعي في الوقت نفسه، ولعل في هذا درساً واضحاً على قصور النصوص القانونية في غياب التصرف العقلاني من الجمهور، وانعدام الرقابة الذي أدى بالوضع إلى هذا التردي.
ولا بد من استخلاص العبر وإبرازها بشكل واضح يمنع تكرار ما حصل في المستقبل، وأول هذه العبر هي – كما أسلفنا – عجز أو اختفاء الرقابة المسؤولة الصارمة في مداولات السوق، فوجود لجنة للأوراق المالية تشرف على مداولات الأسهم الكويتية فقط، كان بمثابة النعامة التي تخفي رأسها في الرمال، إذ إن مداولات الأسهم الخليجية أولاً، ثم الأسهم الكويتية العائدة للشركات المقفلة كان يمثل نصيب الأسد في حجم المداولات في السوق، وكان بعيداً حتى عن الرقابة الشكلية التي يفترض بلجنة الأوراق المالية ممارستها، وهذه اللجنة – كما أسلفنا في مقال سابق – ليست مؤهلة حقيقة لممارسة عملها الرقابي الذي يشبه عمل الحكم، فالحكم لا يمكن أن يكون محايداً إذا كان هو نفسه طرفاً في اللعبة بشكل أو بآخر، وأعضاء لجنة الأوراق المالية في جميع أنحاء العالم، حيث توجد سوق للأوراق المالية، لا يُسمح لهم بالتعامل والتداول في السوق مباشرة أو بطريق غير مباشر، فهم في هذا المجال كالقاضي المحايد، ولو كانوا كذلك لتدخلوا في الوقت المناسب لمنع الارتفاع الذي حصل في بعض الأسهم، وكان ارتفاعاً غير مبني على أي أساس سوى المضاربة الربوية البحتة التي تعكس تصرفات غير مسؤولة، وتصلح لنوادي القمار أكثر مما تصلح لسوق الأوراق المالية.. هذا فيما يتعلق بالأسهم الكويتية، أما لو كان عمل اللجنة شاملاً الأسهم الخليجية وجميع أنواع الأسهم الأخرى؛ فإن اللجنة كانت ستُوقف التعامل في عدد كبير من تلك الأسهم حين وصل التداول والتعامل فيها وحين بلغت أسعارها حدود اللامعقول، وكانت اللجنة ستتخطى ذلك لتضع المتداولين أنفسهم تحت طائلة القانون، وتوقفهم عند حدودهم، وخاصة بعض المتداولين الذين يشبهون شخصية فرانكنشتاين.. فرانكنشتاين هذا كان شخصية خيالية فكَّر بها أحد العلماء الشاذين، وحاول تركيبها من مجموعة من الخلايا المتنوعة، فلما نجح في ذلك – كما تقول القصة – أخرج مخلوقاً ضخماً قبيح المنظر، كان أول عمل قام به هو الالتفات إلى صاحبه الذي خلقه، وقتله! وهو يعكس بالضبط ما حصل في السوق؛ إذ إن كبار المتداولين والمتعاملين خلقوا فيما بينهم شخصيات اعتقدوا أنهم استفادوا منها بالنسبة الخيالية التي باعوا عليها أسهم الشركات، وكان أن انقلب الوضع عليهم، فكانوا أول المتضررين!
ولو كانت هناك لجنة للأوراق المالية، تراقب وتنظم، وتنبّه وتردع، وتطبق القانون على الصغير والكبير؛ لما انفلت الوضع مثل هذا الانفلات.
والكاتب يعود فيؤكد أن ممارسات الحكومة في هذا المجال تجعلها عرضة للنقد، فلجنة الأوراق المالية يجب أن تشمل صلاحياتها جميع أنواع الأسهم التي يمكن لرأس المال الكويتي أن يتداول بها سواء كانت أسهم شركات كويتية أو شركات خليجية أو شركات عربية أو شركات عالمية، فسوق الأوراق المالية يجب أن تكون سوقاً حقيقية شاملة جميع أنواع الأوراق المالية، وبغض النظر عن جنسياتها.. فالتجارة يجب ألا تحددها الجنسية.. ولا يمكن في الواقع أن تحدها الجنسية.. وهو ما أثبتته الحقائق الماثلة أمامنا الآن، ولهذا يجب تقنين الوضع، وإخضاع جميع أنواع التداول والتعامل في الأوراق المالية، وبغض النظر عن جنسياتها، لسلطة لجنة واحدة للأوراق المالية، تكون لها صفة الضبطية القضائية في تسيير شؤون السوق، وفرض رقابة قانونية محكمة عليها، ويتم عن طريقها تسجيل الشركات التي يسمح بتداول أسهمها حسب أسس وقواعد واضحة لا تقبل الاجتهاد والمزاج الشخصي، كما يجب أن يكون أعضاء هذه اللجنة من الناس البعيدين كل البعد عن التداول في السوق، وأن يكون وضعهم كوضع القاضي، ويجب ألا نذهب بعيداً في البحث عن هذا النظام، فهو موجود في كل سوق للأوراق المالية تحترم نفسها ويهمها الحفاظ على مصالح الناس وصيانتها من عبث العابثين، وما لم يتم بعين السرعة تشكيل لجنة الأوراق المالية بهذا الشكل، وبهذا الشمول؛ فإن المأساة التي حصلت في السوق المالية ستتكرر مرة أخرى، إذ إن الجشع من صفات الإنسان التي لا يمكن أن تزول وتختفي في غمضة عين.
ومرة أخرى يجب التنبيه إلى أننا في الكويت لا نختلف عن غيرنا من الناس، ويجب الكف عن المكابرة والادعاء بأننا قادرون على تنظيم شؤوننا استناداً إلى التقاليد والأعراف التجارية، فالكويت الآن ليست ديوانية صغيرة أو مجلساً قبلياً يمكن فض المنازعات فيه بالطرق العشائرية الودية، ويجب أن نلجأ إلى القانون الواضح والصريح وإلى تطبيق أسس الرقابة تطبيقاً صارماً لا يفرق بين أحد.
وإذا كان الأسلوب العشائري قد نجح أخيراً في تجنيب البلاد كارثة اقتصادية؛ فإن الكاتب يعتقد أن هذا الأسلوب البدائي في تعاملات الناس التي تزداد تعقيداً سنة بعد أخرى لا يُكتب له النجاح.
هذا هو الدرس الأول؛ أي تشكيل لجنة للأوراق المالية لا يسمح لأعضائها بالتداول في السوق، وتشمل صلاحياتها جميع أنواع الأسهم التي يمكن لرأس المال التداول فيها سواء كانت أسهم كويتية أو خليجية أو عربية أو عالمية، ويكون للجنة نفس الصلاحيات التي تتمتع بها لجان الأوراق المالية في نيويورك ولندن وغيرها من مراكز التداول المنتشرة في أنحاء العالم، وخاصة صلاحيات الضبطية القضائية التي تمكنها من إيقاف التداول في سهم معين إذا تجاوز التداول فيه حدود المعقول الذي تقرره اللجنة نفسها، كما تشمل صلاحية إيقاف الأشخاص المتداولين فيه حدود المعقول الذي تقرره اللجنة نفسها، كما تشمل صلاحية إيقاف الأشخاص المتداولين أنفسهم إذا شطحوا وخرجوا عن المعقول في تداولهم، وشطبهم ومنعهم من التداول إذا استمروا في تخطي المعقول، وحتى متابعتهم قضائياً إذا استخدموا معلومات مؤتمنين عليها لتحقيق مكاسب شخصية.
أما الدرس الثاني؛ فهو الدرس الذي ما برح الكاتب يردده في كل مناسبة؛ وهو أن السوق الكويتية بحجمها الصغير، وإمكانياتها المحدودة، لا يمكن أن تستوعب نشاط وحيوية القطاع الخاص الكويتي، بل ولنقل: عنفوانه وثوريته، ولقد أدى انحصار رأس المال الخاص في الكويت إلى المضاربات الربوية التي حصلت في الأسهم والعقار، وأدت إلى ارتفاع الأسعار بالمعدلات الخيالية التي وصلت إليها، والتي انقاد إليها الجميع صغاراً وكباراً، ففي غياب الاستثمار الجدي في الإنتاج والصناعة والخدمات، اتجه رأس المال إلى المضاربة، وأدت المضاربة إلى التضخم الخيالي في الأسعار، بحيث لم يعد فيها مكان للعقل والمنطق، وسيبقى هذا العنصر ماثلاً ومتواجداً في الاقتصاد الكويتي، إذ مهما استمر نموه، فإن حجمه محدود بحدود صارمة لا سبيل إلى تخطيها، وهي حدود تفرضها الجغرافيا وعدد السكان وحجم السوق، وشحة الموارد الطبيعية الأخرى، وأي محلل متجرد سيرى بعينه أن معظم أرباح الشركات الكويتية ما هي إلا أرباح ليس لها علاقة بالأهداف التي أنشئت من أجلها تلك الشركات، أي أنها أرباح المال من المال نفسه، وليس من الإضافة إلى رأس المال عن طريق زيادة الإنتاج.
ولقد نادى الكاتب بالاتجاه إلى الاستثمار الخارجي باعتباره السبيل الوحيد المفتوح أمام رأس المال الكويتي المتوثب، فالاستثمار الخارجي يفرض على رأس المال الكويتي انضباطاً ليس له وجود داخل الكويت، وهو انضباط سببه اختلاف القوانين والبيئة؛ مما يحتم على صاحب رأس المال أن يقضي وقتاً أطول ويبذل مجهوداً أكبر في التعرف على القوانين والبيئة، وأوضاع البلاد التي تستضيف رأس ماله، وكيفية التعامل معها، كما يفرض عليه انضباطاً آخر في كونه مضطراً إلى مقارنة نفسه برأس المال الأجنبي المتقدم الذي استطاع أن يشق لنفسه طريقاً سوياً دون امتيازات خاصة، وفي ظل القوانين السائدة في تلك البلاد، وأخيراً وليس آخراً فالاستثمار الخارجي يفرض على رأس المال الكويتي الانضباط الأكبر، وهو انضباط القناعة بالربح المعقول، والكف عن توقع الربح الربوي الذي اعتاد عليه وعلى سهولته في السنوات القليلة الماضية.
ليس هناك طريق آخر أمام رأس المال الكويتي إلا توجيه جزء كبير من موارده وجهوده نحو الاستثمار الخارجي، بحيث يساهم الاستثمار الخاص في خلق موارد إضافية للبلاد تعضد وتساعد الموارد التي يخلقها المال الاحتياطي العام، المستثمر كذلك في الخارج.
وهذا الاستثمار يمكن له التوجه إلى البلاد العربية، حيث سبق لرأس المال الكويتي المشترك أن شق الطريق ومهّده، وأصبح الجو مهيّأً لاستضافة رأس المال العربي، وخاصة في البلاد التي نجح فيها الاستثمار العقاري والصناعي الكويتي كمصر وتونس والمغرب والأردن واليمن، والراغبون في الاستثمار هناك أمامهم الآن العديد من القنوات والطرق؛ منها الشركات الكويتية القائمة التي تعمل الآن في هذه البلاد، ومنها الشركات التي هي الآن قيد التأسيس لهذا الغرض التي تضم رؤوس أموال خليجية أخرى تهدف إلى نفس الهدف، ومنها الشركات التي طرحت أفكاراً محددة بشأن تأسيسها من قبل الشركات الكويتية الاستثمارية الجديدة التي دعي إليها بعض المسؤولين عن هذه الشركات في أوائل الصيف، وأدت أزمة السوق إلى عدم متابعة الأمر متابعة جدية، ولكن الأوضاع تبدو للكاتب مهيأة للعودة للموضوع.
كما يمكن لهذا الاستثمار التوجه إلى منطقة النمو القادم التي يتوقع لها جميع المحللين والمراقبين نشاطاً مزدهراً من الآن وحتى نهاية القرن العشرين على أقل تقدير، ونعني منطقة جنوب شرق آسيا؛ حيث تقع ماليزيا وسنغافورة والفلبين وإندونيسيا وكوريا وهونج كونج واليابان وأستراليا، وهذه المنطقة المتقدمة تستضيف الآن رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم، وتشهد منافسة حادة بينها، وتتبع فيها أحدث أساليب التجارة والاستثمار؛ مما يتطلب من المستثمر الكويتي أن يكون حذراً من إلقاء نفسه في هذا الوسط المتقدم ما لم يكن مسلحاً بأدوات التعامل الحديثة من خبراء وقانونيين ومحاسبين متخصصين، سواء من البلاد العربية أو من أهل المنطقة نفسها، والذين عملوا هناك اكتشفوا أن اكتساب الخبرة يتطلب نضوجاً وتفهماً لأساليب العمل في تلك البلاد، وأننا لا نستطيع فرض أساليبنا أينما ذهبنا، فمنطقة جنوب شرق آسيا منطقة غنية لا تحتاج لرؤوس الأموال من خارجها، وإنما الحاجة هي لرؤوس الأموال الخارجية نفسها أن تدخل المنطقة لتستفيد منها.
إذاً فالدرس الثاني الذي يجب استيعابه من الأزمة الأخيرة هو ضرورة توجه رأس المال الكويتي إلى الاستثمار في الخارج، وخاصة في البلاد العربية، وفي منطقة جنوب شرق آسيا؛ إذ إن انحصاره وتقوقعه داخل الكويت نفسها يؤدي به إلى الانضباط وإلى الانتفاخ فالاختناق فالانفجار، أما توجهه إلى الخارج فيؤدي به إلى الانضباط وإلى الاستثمار في الإنتاج؛ مما يخلق موارد إضافية للبلاد المصدّرة والمضيفة له.
والكاتب يعتقد أن هذين الدرسين هما أهم الدروس المستخلصة من أزمة السوق.