توصيات غرفة التجارة والصناعة انبثقت من عقلية عملية، أخذت بعين الاعتبار عدة عوامل؛ أهمها:
1- أننا الآن أمام حقائق جديدة لا يمكن تجاهلها، وأن هذه الحقائق ترتبت عليها أوضاع جديدة، أفرزتها القوانين والإجراءات والتوجيهات التي تمت منذ أكتوبر 1982م.
2- حاولت الغرفة أن تعالج الأمر من منطلق رجل الأعمال العملي، والذي في الوقت نفسه يهدف إلى الستر وإلى عدم إشهار إفلاس أعداد كبيرة من الناس الذين كان لهم شأنهم ودورهم في الحياة الاقتصادية في الكويت.
3- ولكنها، وحتى لا ينسى البعض، ذكَّرت بما كان ممكناً، وأنَّبت الحكومة على ما حصل، وذلك دون المساس بما تراكم من تشريعات وتصرفات، ولا بد من العمل من خلالها.
ولقد أشار الكاتب عدة مرات إلى كيفية معالجة الأزمة التي حدثت في بريطانيا عام 1975 – 1976م وتعرف بأزمة “السوق الثانوي” The Secondary Market Crisis حينما وصلت المضاربات العقارية حداً جنونياً كان سيطيح بالعديد من المؤسسات المصرفية والمالية والعقارية، وكان سيؤدي إلى مئات من الإفلاسات، وكانت المعالجة هي أن بنك إنجلترا (المركزي) دعا المتداولين وأدخلهم القاعة الكبرى في البنك صباح أحد الأيام، ولم يسمح لهم بالخروج إلا بعد منتصف الليل، وفي هذه الأثناء تولى المسؤولون في البنك مفاوضة كل على حدة، بحيث دفعوا لهذا على قدر ما ينقذه من الإفلاس، وأخذوا من ذاك ما أمكنه تدبيره.. وبذلك تداركوا الأمر وهو في أوله، وتمكنوا من احتواء الأزمة والقضاء عليها وهي في مهدها، ولا يزال كثير من أولئك الأبطال يسددون للدولة مديونيتهم لها، وفي الوقت نفسه فإن ما استولت عليه الدولة من أملاكهم وعقارهم باعته بهدوء في السنوات التالية وحققت من ورائه ربحاً معقولاً للخزينة العامة.
وفي رأي الكاتب، أن مقترحات الغرفة تكاد تشبه ذلك الحل الذي طبقه بنك إنجلترا (المركزي)، وأمكن عن طريقه حل الأزمة، ولم يسلك البنك طريقاً قانونياً بحتاً كما اخترنا هنا أن نسلك، بذلك وضعنا أنفسنا في زاوية وحشرناها بحيث أصبحت الحركة غير ممكنة إلا في اتجاه واحد.
والتعليق على مقترحات الغرفة لا يمس جوهر المقترحات نفسها، إذ إنها مقترحات معقولة وسبق أن طرحتها الحكومة نفسها في المرسوم بقانون (57/ 1982)، الذي عدله مجلس الأمة دون مقاومة من الحكومة، بالقانون (59/ 1982)، وأزال منه أهم عنصر لمعالجة الأزمة، وهو عنصر تخفيض الدين، أي أهم ما جاء الآن في اقتراحات الغرفة وعنصر التعدد في هيئات التحكيم، وهو ما جاء كذلك في اقتراح الغرفة بإنشاء دوائر متفرعة عن هيئة التحكيم.
ولكن التعليق يمس تطورات الأزمة بشكل عام.
وأول ملاحظة هي: إذا افترضنا أن الحكومة بمجملها العام أقرت التوصيات، واستدعت مجلس الأمة لتعديل القانون (59/ 1982)، وإدخال البند المقترح من الغرفة، فإن أهم من ذلك هو اقتناع مديري الأزمة بما قد تقرره الحكومة، إذ ليس أسهل من عرقلة هذه المقترحات أثناء التنفيذ، ويذكر الكاتب – ويشترك معه كل كبار موظفي الدولة – أن أهم عنصر في تنفيذ أي قرار أو أمر في وزارة ما، ليس هو اقتناع الوزير بقدر ما هو اقتناع الوكيل، فإذا لم يقتنع الوكيل فإن بإمكانه عرقلة التنفيذ أو إفساد مفعوله بطرق ملتوية لا حصر لها.
ولهذا فأول ملاحظة ستكون في شكل تساؤل وهو: هل الاقتناع سيشمل الوزراء المسؤولين مباشرة عن تنفيذ وتطبيق الحلول؟ إذ لا يكفي أن ينفذ المسؤول ما تم الاتفاق عليه بشكل عام، وإنما يجب أن يكون مقتنعاً به، حتى يعطيه – أثناء التنفيذ – ما يحتاج إليه من دفع وتدعيم.
وثاني ملاحظة هي: إذا تم تطبيق مقترحات الغرفة وخاصة ما يتعلق فيها بالاعتراف بأسهم الشركات الخليجية، واستخدام هذه الأسهم كأداة دفع، فإن هذا سيقوي من مراكز الشركات الخليجية بلا شك، ويجب أن يأتي الاعتراف صريحاً ومباشراً وليس من الباب الخلفي.
ولكن مع ذلك.. فسيجد كثير من الناس أنه أصبح في حوزتهم عدد كبير من الأسهم الخليجية، ولكن أين السوق التي ستمكنهم من تحريك هذه الأسهم أو تسييلها فيها؟
السوق أيها السادة.. ليس مبنى كبيراً فقط، وإنما هو بشر قبل كل شيء.. وبشر ليسوا ككل البشر.. وإنما هم الذين اصطلح على تسميتهم بالمضاربين.. وهؤلاء المضاربون هم الذين تلوكهم الألسن منذ بداية الأزمة، وهم المتهمون الرئيسون الآن، وهم الذين تهدف قوى كثيرة إلى تحجيمهم، وهم الذين توقفت عجلة الحل أمام مشكلتهم، وهم الذين يقال عنهم الآن: إنهم هرَّبوا الأموال، وأفشلوا الحلول التي سبق طرحها، ولم يحاولوا التفاهم مع بعضهم بعضاً للتخفيف من مديونيتهم.
وهؤلاء إذا انتهى بهم الأمر إلى فقدان معظم ما يملكون، فإن معنى ذلك هو انتهاء السوق؛ أي أن اختفاء هؤلاء المحركين الأساسيين من سوق الأسهم، سيعني اختفاء المضاربين، وكلمة المضاربين أصبحت الآن سيئة السمعة، إلا أنهم هم ركن السوق الأساسي، وهم الذين يتواجدون لبيع سهم لشخص يرغب في سيولة، وهم الذين يتواجدون لبيع سهم لشخص يرغب في الاستثمار أو في المضاربة، هذه هي الحقيقة الباردة بغض النظر عن الرغبة في الاشتراك مع السكاكين الكثيرة التي لمعت للإجهاز على البقرة المذبوحة أصلاً.
وهذا ليس دفاعاً عن طبقة المضاربين، ولكنه ذكر حقيقة أساسية وهي: أنه لا يوجد سوق للأسهم في العالم قاطبة بدون وجود مضاربين عملهم الدائم هو البيع والشراء في الأسهم، ولهذا فإن الأسهم الخليجية حين تستخدم كأداة بيع، قد لا تجد من يشتريها أو يتاجر فيها إذا فقدت السوق أهم عنصر فيها، وهو عنصر المضاربين.
وهذا التحليل يكمل ما ذهب إليه الكاتب دوماً؛ وهو أن المشكلة لم تكن مشكلة أشخاص وإنما هي مشكلة نظام اقتصادي بكامله، وهوسة أصابت معظم الناس.
والملاحظة الثالثة هي: إذا استمرت الحكومة في شراء الأسهم الكويتية، وربما بعض الأسهم الخليجية في المستقبل، فسينتهي الأمر بها إلى تملك النسبة الكبرى من أسهم هذه الشركات، وبذلك يصبح الاقتصاد الكويتي اقتصاداً يملك القطاع العام أكثر من ثلاثة أرباعه.
ويتقلص دور القطاع الخاص إلى دور القومسيونجي أو الوسيط الذي يعيش ليومه فقط، وليس هناك وضع أكثر سوءاً من تجحيم القطاع الخاص في الكويت إلى هذا الحد، حينها تصبح الحياة الاقتصادية مملة وباهتة تحكمها البيروقراطية والروتين، وليس الريادة والمبادرة.. وعلى كلٍّ، فالأسهم الكويتية لم يدعها شراء الحكومة الانتقائي والمستمر حتى الآن، ويجب سحب هذا الدعم وترك الأسهم تصل إلى مستوى أسعارها الحقيقي وسط هذه الأزمة العنيفة، وحينها سيكون السعر الجديد مغرياً للشراء مرة أخرى، وحينها قد يكون ممكناً عودة بعض الروح إلى السوق، وربما ظهور طبقة جديدة من المضاربين.
والملاحظة الرابعة هي: في ضرورة الإسراع بتشكيل لجنة وطنية من ذوي الرأي السديد، تساعد اللجنة الاقتصادية المنبثقة من مجلس الوزراء، وتكون بمثابة المراقب لتطبيق الحلول، والمنبر الذي تختبر فيه الآراء، وقد سمع الكاتب من أحد المراقبين المحايدين أن إحدى اللجان التي تشكلت في أكتوبر 1982م، كانت تضم اثنين من مديري البنوك الكويتية الإنجليز واللذين يعتبران من خبراء المهنة، وإنهما بعد أن حضرا اجتماعين من اجتماعات اللجنة قيل لهما: إن خبرتهما ليست مطلوبة، وإن الحل كويتي مائة في المائة ولن يأخذ وقتاً طويلاً.
وقد حدث هذا بعد أن شخص المديران المشكلة تشخيصاً حقيقياً، ولكنه لم يكن منسجماً مع الرأي السائد في أوساط الحكومة في ذلك الوقت.
والملاحظة الخامسة هي: إن ما اقترحته الغرفة في حالة قبوله سيكون من العوامل المساعدة التي تعجل بدفع الحركة وعدم التوقف، ولكن لا بد من فحص ما قد يترتب قانونياً على الشكل الذي يجرد المرء من كل ممتلكاته دون إشهار إفلاسه ثم ملاحقته لمدة خمس سنوات بعد ذلك، إذ ربما يفضل هذا الشخص أن يحال إلى المؤسسة التي ستقوم بنفس الإجراء ولكن مع الاحتفاظ له بالحدود الدنيا التي تتطلبها حياته اليومية، كما أن من الضروري توضيح الموقف الدستوري من طريقة اقتسام موجودات المفلس التي اقترحها حل الغرفة، إذ ربما لا يكون الاقتسام متساوياً بين الجميع وحسب نسب ديونهم.
ويبقى بعد ذلك ما أشار إليه الكاتب في مقال سابق؛ وهو أن المدخل الوحيد المتبقي للحكومة الآن هو تقييم دينار المفلس عن طريق تحديد المراكز المالية للجميع، ثم دعم هذا الدينار وتحديد حد أدنى له، وبعد ذلك إعادة تحديد وتثبيت المراكز المالية للجميع مرة أخرى وعلى أساس القيمة المقررة لدينار كل مفلس واستخدام القيمة الجديدة هذه لفك الترابط عن طريق التقاص، ورغم التخوف من أن دعم دينار المفلس سيكلف الخزينة العامة الكثير، فإن هذا يمكن احتواؤه إذا توافر الجو النفسي المطمئن والمشجع، بحيث لا يندفع الجميع لخصم السندات التي سيفرزها تحديد قيمة دينار المفلس وتسييلها، وإنما يتجه البعض إلى الاحتفاظ بها كاستثمار، وربما يؤدي هذا إلى تطوير سوق ثانوية فيها لاستخدامها لتسديد الديون والالتزامات، وهو ما أشار إليه الكاتب في أكتوبر 1982م.
أما القول بأن الحلول يجب ألا تكلف الدولة شيئاً، فهو قول يحاول عدم مواجهة الحقيقة المرة، ويجب ألا تضيع الجهود فيه، وإلا خسرت الدولة المزيد دون فائدة ودون تأثير إيجابي على الأزمة مثل ما حصل في دعم الأسهم الكويتية ومنع أسعارها من الانخفاض الطبيعي في مثل هذه الحالات.
وكما أسلفنا، فإن الطريق المعقول المتاح الآن، ومن ضمن المعطيات والحقائق الجديدة التي برزت فوق السطح والتي أفرزتها القوانين والإجراءات التي صدرت، هو التركيز على قيمة دينار المفلس، وعلاج ذلك بالاستعانة بالخبرات المتخصصة من الأوساط الدولية والمحلية.
وبعد.. لقد صهرتنا هذه الأزمة، وبعد أن صهرتنا، وربما تصقلنا، وتجعل منا رجال أعمال أفضل مما كنا.. ولكنها كشفت لنا عن مواطن الضعف في كيفية اتخاذ القرار وفي توقيته، وأظهرت كثيراً من النوايا الخفية التي كانت مختبئة تحت شعار اصطناعي.
ولا بد أن نستفيد منها دروساً وعبراً، فالشعوب تتعلم من أزماتها، والدول المتطورة المتجددة هي التي لا تقف ولا تلتفت إلى الوراء وإنما تعي الدرس وتعدل من سلوكها وتستمر في المسيرة، وفي هذه الأثناء تتغير كثير من المعطيات ويتغير كثير من الأشخاص، ولكن الدول تبقى وتستمر بعزم وتصميم أبنائها.