November 11, 1982

المهتمون بالسياسة كفكر وفلسفة يتذكرون قيام الحزب القومي السوري الاجتماعي ومؤسسة أنطون سعادة، ولقد ارتكز الحزب على رفض فكرة القومية العربية، واستبدلها إلى أربع قوميات تستوطن المنطقة التي اصطلح على تسميتها بالمنطقة العربية؛ أي من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي، وهذه القوميات – حسب رأي أنطون سعادة – هي شمال أفريقيا، وادي النيل، الهلال الخصيب، الجزيرة العربية.

وقد استشاط الكثيرون غضباً من هذا الرأي، ووصفوه بأشنع الأوصاف، واتهموا صاحبه بأقذع التهم.

وها هي الأيام تثبت صدق ذلك الرأي، ولو جزئياً، فالمغرب العربي بدوله الثلاث أو الأربع مشغول بنفسه، ومصر يهمها وادي النيل بدرجة أساسية، والهلال الخصيب مشتعل كعادته، والجزيرة العربية أفرزت مجلس التعاون الخليجي، أليس في هذا تحقيق لأفكار أنطون سعادة؟ هل جرب أحد أن يستفتي الناس العاديين في رأيهم فيما حدث في لبنان؟ وهل حاول أحد أن يقيس انفعالاتهم وعواطفهم إذا بقي منها شيء؟ الأفضل ألا يجرب أحد.. إذا أردنا أن نحتفظ على الأقل بجزء من الوهم الذي نعيش به منذ أكثر من أربعين عاماً، وهذا الوهم هو أننا أمة عربية واحدة تهزنا مشاعر واحدة، وتؤثر فينا ما يحدث لأجزاء الوطن العربي، ونتفاعل مع بعضنا!

والكاتب حين يناقش هذا الموضوع، ينطلق من إيمان عميق متأصل بالعروبة المنبثقة من الإسلام، ومن ترجمة هذا الإيمان إلى ممارسة يومية في العمل أو في التصرفات؛ ولهذا فإن معالجته لهذه القضية لا تنطلق من موقع عدائي، ولكنها معالجة الحريص الذي يجزع مما يرى، ويعتقد بضرورة تشخيص الداء حتى في الجسم دون أن يشعر به المصاب، ولا يتم اكتشافه إلا بعد فوات الأوان، وموضوع أفول القومية العربية يشبه السرطان في كونه يحدث، ونحن ندعي عدم حدوثه، بل ويذهب بعضنا إلى نفي وجود المرض نفسه.

وقد قرأ الكاتب رأياً للدكتور عبدالعظيم رمضان، الكاتب المصري المعروف، يتلخص في نعيه للقومية العربية، وإننا ندخل الآن عصراً زالت فيه قضية الوحدة أو الاتحاد حتى من الأحلام جيلنا.

يقول في مقاله الذي نشرته مجلة “أكتوبر” ما يلي:

“لا يزال كثير من القوميين المصريين والعرب يعيشون في إطار النظرة الكلاسيكية للقومية العربية كما تجسدت في الأربعينيات في شكل جامعة الدول العربية على يد الزعيم مصطفى النحاس، أو كما نمت وتطورت في الخمسينيات والستينيات في شكل المد القومي العربي العارم الذي اكتسح المنطقة العربية تحت زعامة المناضل جمال عبدالناصر، دون أن يقفوا لحظة واحدة عند المتغيرات البالغة الأهمية التي طرأت على الساحة العربية في السنوات الأخيرة، ونقلت حركة القومية العربية إلى مستوى جديد، نعم فإنه من الغريب حقاً أن أحداً من القوميين لا يستطيع أن يرى هذه الحقيقة التي تبدو أبرز ما تكون الآن.

وهي أن شمس الوحدة العربية قد غربت عن عالمنا العربي بالفعل، وأننا نعيش ليل الانقسام الطويل الذي لا يعرف أحد غير الله طوله ومداه، والذي أظن أن أحداً في جيلنا لن يشهد انبلاج فجره في حياته مهما طالت”.

ويستمر الدكتور رمضان فيقول:

“بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول: إن شمس الاتحاد الذي هو أقل بكثير من الوحدة قد غربت أيضاً عن العالم العربي لليل طويل قد لا نرى فجره في جيلنا الحاضر.

وهذا الكلام ليس تثبيطاً لهمم القوميين العرب في مصر أو في العالم العربي، ولا دعوة لهم إلى اليأس، فستبزغ شمس الوحدة العربية في يوم من الأيام كما بزغت شمس الوحدة الأوروبية أخيراً بعد نضج الشعوب الأوروبية أخيراً بعد هذا الشكل أو ذاك، وإنما أقصد بهذا الكلام دعوة القوميين المصريين والعرب إلى التمييز بين ما هو نظري، وما هو عملي، وبين ما هو تكتيكي وما هو إستراتيجي، وبين السياسات التي تقوم على الحقائق مهما كانت بشعة؛ فتغيرها تدريجياً، والسياسات التي تقوم على الأوهام والشعارات فلا تغير شيئاً…”.

ويمضي الدكتور عبدالعظيم رمضان فيقول:

“والمتغيرات التي يغمض القوميون العرب أعينهم عنها حتى لا يروا بشاعتها هي التي تتعلق بجبهة الصراع العربي – “الإسرائيلي” من جهة، وجبهة الصراع العربي – الإيراني من جهة أخرى.

وبالنسبة لجبهة الصراع العربي – “الإسرائيلي”؛ فيجب الاعتراف بأن القضية الفلسطينية العادلة، وهي القضية الأساسية التي ظلت توحِّد العرب، وتجمعهم حولها منذ العشرينيات من هذا القرن، قد فقدت إلى حد كبير تأثيرها الوحدوي بعد أن برزت قضايا إقليمية في الساحة العربية انتزعت مكان الصدارة، واستأثرت باهتمام جميع الدول العربية تقريباً، وكرست الانقسام العربي لأمد غير قريب”.

ويمضي في مقاله إلى أن يقول:

“ولكن النتيجة النهائية هي أنه أصبح هناك بين كل دولة عربية وجارتها من أسباب الخوف والشقاق أكثر مما يربطها من أسباب الطمأنينة والوفاق…”.

ويصل الدكتور رمضان إلى الصراع العربي – الإيراني فيقول:

“أما ما يتصل بجبهة الصراع العربي – الإيراني؛ فلا أحد من القوميين العرب في مصر أو في هذا العالم العربي يريد أن يعترف بهذه الحقيقة، وهي أن هذه الحرب قد ألحقت من الصدع بحركة الوحدة العربية والاتحاد العربي ما لم يلحقه أي عمل آخر في خلال الثلاثين عاماً السابقة…”.

ويستمر إلى أن يقول:

“والأمر المحقق الآن أن تأثير الحرب الإيرانية – العراقية في تدمير حركة الوحدة العربية والاتحاد العربي هو تأثير فادح، فمنذ ظهور الوعي على القومية العربية في الربع الثاني من هذا القرن، كان هناك تمييز كبير بين معسكر الشعوب العربية ومعسكر القوميات الأخرى، وهذا التميز كان من أقوى الأسباب والعوامل التي أعطت الحركة القومية العربية قوتها وفاعليتها؛ حيث كان أي اعتداء على كل الشعوب العربية أن تهب لدفعه بكل ما تملك من إمكانات، ولكن الحرب العراقية – الإيرانية شهدت نهاية هذا التمييز، فلأول مرة منذ نصف قرن تتخذ دول عربية هي سورية وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي موقفاً إلى جانب طرف غير عربي في معركة مصيرية من أخطر ما شهد العالم العربي ضراوة ويتوقف عليها مصير الأنظمة الحاكمة العربية في الشرق العربي كله ضد طرف عربي أصيل”.

انتهى الكلام المقتطف من مقالة الدكتور عبدالعظيم رمضان المنشور في مجلة “أكتوبر” الصادرة 13/ 6/ 1982م، وكان المقال بعنوان “مصر والعالم العربي إلى أين؟”، ورأى الكاتب أن يقتطف من هذا المقال القيم لإفادة القارئ.

***

هذا بالنسبة للحكومات والدول.

أما بالنسبة للشعوب، فالوضع لا يختلف كثيراً بل أنه يزيد سوءاً؛ إذ إن الناس العاديين لا يهتمون كثيراً حتى للمجاملات التي تسود علاقات الدول مهما بلغت عداوتها وخاصة في البلاد العربية النفطية؛ حيث المال هو المقياس الوحيد للقيم.

وسوف نجد أوساط الناس ما يلمسه أي باحث اجتماعي من انعدام الوعي القومي والشعور بالانتماء العربي وخاصة في منطقتنا من البلاد العربية، ومن هنا يتضح مدى صدق رأي الدكتور عبدالعظيم رمضان، ونكتشف مدى ما وصلنا إليه.

كما أن استعراض القوانين والإجراءات المكتوبة وغير المكتوبة التي تفرّق بين العرب في معظم البلاد العربية، وخاصة في منطقة الخليج التي تزداد رسوخاً وانتشاراً، بحيث وصل الأمر إلى منع الشركات الخليجية من التداول في سوق الأسهم إذا كان جزء طفيف من أسهمها مملوكاً لعرب من خارج الخليج، يوضح بما لا يقبل الشك أن الاتجاهات الانعزالية والتقوقع هو المسيِّر الحقيقي لسياسة الحكومات، ويا ليت هذا الانعزال قائم على أساس حضاري وسكاني يبرره، فالانعزال في عصرنا الحديث أمر لا يقوى عليه حتى الدول الكبرى، فما بالك بصغراها؟!

وإذا ألقينا نظرة شمولية على موضوع أفول شمس القومية العربية، نجد أنها أفلت بوفاة الزعيم جمال عبدالناصر الذي جاء أنور السادات وحوَّل مجرى السياسة المصرية من العروبة وقيادتها إلى التركيز على مصرية مصر، كان ذلك بمثابة الإذن لباقي العرب أن يُفصحوا عن حقيقة مشاعرهم، وأن يقلِّدوا أخاهم الأكبر؛ فبرزت القومية المارونية، والشخصية الخليجية المميزة، وأصبح لكل قُطر عربي هويته الخاصة، وصرنا نسمع عن أغنيات خاصة به، وعدَّلت كُتب التاريخ لتبرز الخصائص الذاتية له، ودعي البعض إلى استعمال العامية في الكتابة، وانتشرت الألفاظ السوقية التي يستعملها الشارع في وصف العرب الآخرين.. وهكذا.. فلا غرابة في اختفاء الشعور والانتماء العربي بين الجيل الجديد؛ ذلك أنهم نشؤوا وتربوا في ظل إعلام موجَّه يطنطن بمجد بلدهم فقط، وما يقال عن العرب والعروبة لا يخرج عن نطاق الخطب المملة والشعارات التي فقدت معناها.

هذا من ناحية التوجيه المقصود، أما غير المقصود؛ فإن بيننا معشر العرب من أسباب الفرقة الكثير، فمزاجنا يختلف بين الصحراء والحقول والمزارع، وعصبيتنا القبلية لا تزال باقية منذ عصر ما قبل الإسلام، والأجناس المختلفة التي اختلطت بنا وقلنا: إنها ذابت وتعربت؛ عادت الآن لتؤكد كيانها الذاتي كالبربر في المغرب والجزائر، والأكراد في العراق، ولولا القرآن لتطورت لهجاتنا إلى لغات مستقلة، كما تطورت اللهجات اللاتينية الماضية إلى لغات مستقلة كالفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها.

ولن يفيدنا أن نتجاهل هذا الواقع المرير، ولكن القوميين يجب أن يواجهوه ويتصدوا له بأن يعترفوا بوجوده ثم ينطلقوا بعد ذلك لمحاولة صهر هذه البوتقة في أمة عربية واحدة أيضاً، فالأمر ممكن وليس مستحيلاً، والفرق هو أن الحكم الأمريكي جعل نصب عينيه أن يحقق هذا الهدف ونجح في ذلك، بينما نرى الحكومات العربية بمختلف توجهاتها تسعى إلى عكس ذلك، ولهذا نجد التشاؤم يغلب في معالجة موضوع العروبة، ونجد أنفسنا أقرب إلى نعي العروبة بالنسبة لجيلنا وحياتنا من التبشير بها.

والاعتراف بانحسار المد القومي هو أول وسائل العلاج، ومنه ننطلق مرة أخرى في رحلة الوحدة الطويلة.

ولنبدأ صغاراً فنحارب القوانين والقرارات الانعزالية التي تسود حياتنا وتفرق بين العرب وبعضهم كلما وأينما سنحت الفرصة، فالإيمان بالعروبة لا تكفيه الطنطنة الكلامية، وإنما يجب أن يكون ممارسة يومية في العمل؛ فتختفي التفرقة بين العرب في المعاملة والأمور، وتزول المشاعر العنصرية التي تحكم علاقات النسب والزواج، وتتوافر الشجاعة اللازمة لمحاربة القرارات الانعزالية المتفشية؛ كعدم تسجيل مسكن باسم مواطن عربي، وعدم السماح لمواطنين عرب بالمشاركة في الخير المتوافر في بلاد الوفرة النفطية.

فالشعور القومي سلوك يومي لا انفصال فيه، ويجب على القومي أن يضرب المثل على قوميته بتصرفاته الشخصية وتعامله مع العرب الآخرين، وهذه هي البداية في رحلة الوحدة الطويلة لعلنا نستطيع اختصار الوقت وتقصير زمن الظلام الانعزالي، والإسراع بنور القومية كي يبزغ مرة ثانية، وينتشلنا من الوحل الذي سقطنا فيه.

Comments are closed.