التحليل الذي سبق في الموضوعين السابقين كان يهدف إلى إبراز أهمية اللغة في حياتنا من حيث إنها أصبحت المقياس الوحيد لتعريف العرب، والسلاح الأساسي لتوحيد أفكارهم وميولهم، والأمل الوحيد الذي بقي لهم في مستقبلهم كأمة واحدة تربطها مصالح واحدة، ويوحدها عداوة أزلية من قوميات أخرى، تجاورها في أماكن وتطل عليها من أماكن أخرى، وعداوة الغرب تعود بجذورها إلى العصور الوسطى حين حاولت أوروبا المتخلفة أن تستعبد الشرق المتقدم بجيوشها الصليبية، وتعود كذلك إلى الوقت الذي قضت فيه الكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا على آخر معاقل الإسلام وتحالفت مع أركان عصر النهضة في إيطاليا كي تطمس – عن طريق التعليم – أي أثر للعرب والإسلام في أوروبا، وتزيل من العقل الأوروبي أي شعور غير شعور الكراهية والعداوة تجاه البشر الذين يقطنون في الجوانب الأخرى من حوض البحر الأبيض المتوسط، وبحيث وصلت إلى إطلاق تسمية عصر الظلام على عصر النهضة الإسلامية.. ومن هذا المنطلق تجد أوروبا تحارب كل أسباب التوحيد بين الناس القاطنين في هذه الأرض، ولعل أهم أسباب التوحيد هي اللغة، وأهم أسباب التفرقة هو التعليم المتنوع الذي يوجه الولاء وجهة غير الوجهة العربية، ويحيد به عن المفهوم القومي إلى الارتباط بأوطان وقوميات أجنبية لا تريده مرتبطاً بها ولكنها تبقيه معلقاً معها يتيه في حبها توهان المعذَّب الذي تلهب ظهره أسواط المعذِّب، فيزداد حباً فيه، وهل غير هذا الوصف ينطبق على علاقتنا الآن بأمريكا؟
وإذاً.. كيف نطور هذا العامل الجوهري والحساس في حياتنا نطقاً وكتابة وفهماً وقواعد؟ وكيف نركز على اللغة العربية باعتبارها عامل التوحيد الأساسي والباقي على مر الأزمان والذي لولاه لاندثر العرب كأمة مثل ما اندثر الرومان باندثار اللغة اللاتينية؟
ولقد منَّ الله علينا بكتابه العزيز الذي حفظ اللغة العربية، ومنع لهجتها المحلية من أن تتطور بحكم الجغرافيا وصعوبة الاتصال إلى لغات جديدة مثل ما تطورت اللهجات المحلية اللاتينية إلى اللغات الفرنسية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية والرومانية، وكان هذا سيؤدي حتماً إلى اختفاء الأمة العربية كي تحل محلها أمم شتى تنتسب إلى البلاد التي تعيش فيها، وبات علينا أن ننهل من المنهل ونغترف منه ما نحتاج وما يتمشى مع متطلبات العصر الحديث دون أن نكون أسرى لما نادى به الأولون وما اجتهد بشأنه العلماء في عصور غير عصرنا وأزمنة غير زماننا، وكما هو شأن التشريع في الإسلام حيث الشريعة هي الأساس والمصدر الذي لا يتغير، وحيث الفقه هو اجتهاد البشر القابل للتغيير والاختلاف حسب الزمان والمكان وحسب المقدرة اللغوية، فكذلك اللغة تنبع من منبع واحد هو القرآن، ولكنها تتكيف بعد ذلك كي تواكب العصور والتطورات المختلفة في العلوم والفنون والآداب والاجتماع.
والكاتب يدعو إلى الاهتمام الجدي بموضوع اللغة العربية وتدريسها، وهذا يتطلب بادئ ذي بدء أن تقر الدولة بأهمية ذلك، والدولة هنا لا تعني دولة الكويت فقط، وإنما تعني الدولة بمفهومها العام الذي يضم الدول العربية بما فيها الكويت، ومتى ما أقرت الدولة بذلك يمكن حينها اتخاذ خطوات جذرية في هذا المجال، ولعل الجامعة العربية تشغل نفسها الآن في هذا الموضوع ما دامت قد استبعدت عن الأغراض التي أنشئت من أجلها في الأساس.
وأول هذه الخطوات رفع مقام ومكانة مدرسي اللغة العربية ومعاملتهم معاملة خاصة بهم في المدارس سواء في الاختلاف في المرتب أو الاعتبار، وهذا يشجع الكثيرين على طرق باب تدريس اللغة العربية كمهنة محترمة ومميزة تتمتع بدعم وتشجيع الدولة.
وثاني هذه الخطوات هي في الاهتمام بتخريج مدرسي اللغة العربية من مدارس ومعاهد توسع مداركهم وتجعلهم يتمتعون بثقافة عالية دينية وتاريخية واجتماعية، بحيث تكون شخصيتهم عامل جذب وتشويق بالنسبة للتلميذ، وهذه المعاهد موجودة لدينا في الجامع الأزهر، وجامعة الزيتونة، وجامعة القرويين، وجامعة النجف الأشرف، وغيرها من المدارس التاريخية التي ساهمت في حفظ التراث الإسلامي، وتقع عليها الآن مسؤولية تطويره بما يجاري متطلبات العصر الحديث، ولا يمس أساسه وكيانه الأصلي، ومتى ما تطورت هذه المعاهد من حيث المستوى بحيث أصبحت تحتل في ذهن الطالب العربي نفس المكانة التي تحتلها في أذهان الطلاب الإنجليز والأمريكيين جامعات أوكسفورد وكامبردج وهارفارد وغيرها؛ نكون قد ارتقينا بالعلوم التي تدرس فيها إلى مرتبة عليا، وشجعنا النشء الجديد على الاتجاه إليها، وأمكننا الاعتماد على تخريج جيل من مدرسي اللغة العربية الذين يستطيعون نشرها وتقريبها من فهم وإدراك التلاميذ، ويساهمون في تطويرها كلغة حية لا تعجز عن مجاراة التحديات العلمية التي تواجهنا يوماً بعد يوم.
وثالث هذه الخطوات هي في القضاء على الازدواجية في كتابة اللغة العربية، والمقصود هنا هو التمسك بالخط العثماني في كتابة القرآن، بينما تطور الخط المكتوب في كتابة كل شيء آخر، بحيث وصلنا إلى الخط الذي يستعمله الكمبيوتر، فإذا به يعود إلى الخط الكوفي للغرف من معينه، وهذه الازدواجية تغرس في ذهن الطالب وهو في سن مبكرة الكثير من التناقض الذي لا يجرؤ على البوح به ولكنه ينفره تدريجياً من لغته وربما دينه.
ولقد تطرق الكاتب باستحياء إلى هذا الأمر حين معالجته موضوع القومية العربية، وتشاء الصدفة الحسنة أن يطلع على رأي لعالم دين جليل هو الشيخ علي الطنطاوي صاحب الأحاديث الدينية الشيقة التي تجتذب الناس لواقعيتها وخلوها من التمثيل والحركات المسرحية، وقد نشرته جريدة “الشرق الأوسط” السعودية التي تصدر في جدة ولندن، وذلك يوم 24 مارس 1983م، يقول الشيخ الطنطاوي في رده على سؤال حول طريقة كتابة المصحف:
“موضوع عندي فيه أسئلة كثيرة وهو مما يكثر الجدل فيه وتشتد الحاجة إلى تحقيقه، ذلك أن كتابة المصاحف للتلاميذ بالرسم العثماني (نسبة إلى مصحف سيدنا عثمان) مخالفة لطريقة الكتابة المتبعة اليوم، وتؤدي بالتلاميذ إلى الخطأ في تلاوة القرآن، فهل تجوز كتابة المصحف لهم بالطريقة المعروفة؟
وأنا أبين رأيي وأعرض أدلتي، ومن تفضل فناقشني فيها وردها بأدلة مثلها شكرته ورجوت له الثواب من الله وأمهد للجواب:
أولاً: باعترافي بأن أكثر العلماء يقولون بوجوب اتباع الرسم العثماني؛ أي أن نكتب المصاحف وفق كتابة مصحف عثمان بن عفان.
ثانياً: بسؤالي: هل أقوال العلماء تعتبر بذاتها دليلاً شرعياً؟ الأدلة في الشرع هي الكتاب والسُّنة الثابتة، فالإجماع المحقق والقياس الصحيح ويلحق بها الاستصحاب والاستحسان والمصلحة المرسلة، وإن لم يتفق العلماء جميعاً عليها كلها.
ثالثاً: فإن لم تستند أقوال العلماء – مهما علت منازلهم وكبرت أقدارهم – إلى دليل شرعي يؤكد أقوالهم فإننا نستأنس بها لكن لا نتقيد بها.
رابعاً: على أن من العلماء الكبار من قال بجواز كتابة المصحف بالرسم المعروف.
خامساً: القرآن أنزله الله متلواً لا مكتوباً ألقاه جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبريل بلسانه، وعلمه الرسول أصحابه بلسانه، فالمدار فيه على صحة التلاوة.
سادساً: والله أوجب علينا تلاوة بعض القرآن في بعض الحالات (في الصلاة مثلاً)، لكني لا أعرف أن الله أوجب علينا كتابته وجوباً في حال من الأحوال.
سابعاً: ولقد قالوا: إن كتابة المصحف العثماني توقيفية، والتوقيف معناه الوحي، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، والذي يوحى إليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب، والذين كتبوا المصاحف لم يكن يوحى إليهم، فكيف صارت كتاباتهم توقيفية؟ هذا مع العلم بأن القائلين بالتوقيف كثير من العلماء.
ثامناً: ربما علم القرآن بغير مصحف ومن غير قراءة كما يتعلم المكفوفون وكما تعلم أكثر الصحابة، والقرآن قد يسجل على “شريط” أفلا يكون المسموع من الشريط قرآنا؟ فما أثَّر فيه إذن اختلاف طريقة نقله؛ بالحفظ أو الكتابة أو التسجيل على شريط لأن المطلوب تلاوته بلا تحريف ولا تبديل وليست الكتابة مقصودة لذاتها.
تاسعاً: لو كان من الواجب – كما يقولون – أن نكتب المصاحف وفق مصحف عثمان تماماً ولا يجوز أن تختلف عنها لوجب إذن – على مقتضى قولهم – أن نمحو النقط والشكل؛ لأن مصحف عثمان لم تكن الحروف فيه مشكولة ولم يكن عليها نقط تفرق بين الباء والتاء والثاء.
عاشراً: عثمان رضي الله عنه أرسل إلى الأمصار مصاحف متعددة وتختلف كتابة بعض الكلمات في بعض هذه المصاحف عن بعضها الآخر، فأيها هو الذي يجب علينا – على قولهم – اتباع رسمه وتحرم مخالفته؟
حادي عشر: القرآن هو كتاب الإسلام – وهو كتاب العربية وهو المرجع في تصحيح نطقنا بها – وكتابتنا كلماتها، وإن وردت فيه كلمات على غير ما قرره النحاة، فلأن بين هذه اللغات بعض الاختلاف، أما الرسم – أي الكتابة – فلم يروا أن فيها اختلافاً، فإذا اختلف رسم المصحف – أي كتابته – عن القاعدة التي نعلّمها الطلاب، فإما أن نرجع إليه فنجعل طريقة كتابته هي القاعدة، وإما أن نرد كتابته إلى القاعدة لأنه لا يجوز أن يجد التلميذ اختلافاً بين قواعد الكتابة التي يتعلمها وبين كتابة المصحف.
ثاني عشر: ممن قال بكتابة المصحف بالرسم المعتاد – أي على طريقة الكتابة المعروفة – العز بن عبد السلام، والزمخشري، وابن خلدون.
ثالث عشر: ألفت كتب في رسم المصحف العثماني من أشهرها كتاب “المقنع لأبي عمرو الداني”، وهذا الذي نظمه “الشاطبي” في أرجوزته المشهورة التي تعتبر عند القراء مثل الألفية عند أهل النحو، وعندهم أرجوزة أخرى هي الطيبة للجزري، وأرجوزة الخراز المغربي.
بعد كل هذه المقدمات أقول:
1- لا شك أن المطلوب من المسلمين أولاً هو تلاوة القرآن تلاوة صحيحة موافقة لما نزل به الوحي، وما علمه الرسول أصحابه، وما توارثه القراء.
2- كل وسيلة تؤدي إلى هذه الغاية تكون جائزة.
3- الرسم العثماني مخالف لرسمنا – أي لكتابتنا – في أمرين:
الأول: مفيد لأنه يقود إلى تعدد القراءات؛ كحذف الألف من “مالك يوم الدين” صحيحة، وحذف الألف من كلمة “يخادعون” إشارة إلى قراءة “يخدعون”، وقوله: “كطي السجل للكتاب” حذفت الألف لقراءة “للكتب”، والاتباع هنا أفضل مع الإشارة على هامش المصحف إلى الرسم الآخر للكلمة.
الثاني: لكتابة كلمة “شيء” على صورة “شأي”، وكلمة “لأذبحنه” على صورة “لا أذبحنه”، وكلمة “بايد” “باييد”، فالأولى – فيما أرى – أن نثبتها في المصحف على الطريقة المتبعة ونشير في الهامش إلى طريقة كتابتها في المصحف العثماني، وهذا كله للتلاميذ – وللعامة – لئلا تجرهم كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى الخطأ في التلاوة، فنكون قد أضعنا الغاية للمحافظة على الوسيلة.
4- أما طلبة العلم الكبار والعلماء والمختصون بالقراءات فتبقى بين أيديهم المصاحف المطبوعة وفق الرسم العثماني.
5- ولقد جرى المسلمون قروناً طويلة على كتابة المصاحف وطبعها على طريقة الكتابة المعروفة – إلا في كلمات قليلة وأقر ذلك علماء تلك القرون – حتى إنني وأنا صغير تعلمت في مصحف مطبوع على هذه الطريقة بخط الخطاط ملا عثمان المشهور (وكلمة ملا أصلها مولى) حتى طبع في مصر مصحف فؤاد ملك مصر، وأذكر – إن لم أكن مخطئاً – أنه طبع سنة 1337هـ، وكان عمري عشر سنين، وأشرف على طبعه شيخ قراء مصر يومئذ الشيخ محمد خلف الحسيني، والأساتذة حنفي ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري (الذي حضرت عليه في دار العلوم في مصر سنة 1928م).
والخلاصة:
إني لا أدعو إلى بدعة ولا أتعمد مخالفة المصحف العثماني – أو المصاحف – العثمانية، ولا أن أفتح باب خلاف بين العلماء، لكني أريد – وأن يعلم أني صادق – أن أجنِّب التلاميذ الخطأ في تلاوة القرآن، وأريد أن يُكتب كتابة تبعدهم وتبعد العوام عن هذا الخطأ حتى يقرؤوه قراءة صحيحة، فأيما طريق أوصل إلى هذه الغاية فنِعمَّا هو، أما أن نوقعهم في الخطأ لمجرد اتباع الرسم العثماني وليس لمن قال بوجوبه على كثرة عددهم وعلو أقدارهم دليل شرعي وقولهم وحده ورأيهم واستحسانهم المجرد لا يوجب علينا الشرع اتباعه ولا يحرم علينا مخالفته.
هذا وإن ظهر الحق في غير ما قلت فأنا أول من يسارع إلى قبول الحق والرجوع عن الخطأ”.
انتهى كلام الشيخ علي الطنطاوي.
ومن هنا نرى أن هذه القضية تشغل بال العلماء والمفكرين، وأن التطور العلمي وطريقة نقل المعلومات تتطلب وضوحاً في كتابة اللغة، وهذا الوضوح يجب أن يمتد ليشمل الفهم والاستيعاب للفرد منذ طفولته للأساسيات التي تتكون منها شخصيته وذاته، وعلى رأسها الدين واللغة.