مم يتكون الموقف العربي الراهن؟ إنه يتكون من مجموعة من المتناقضات الأساسية في سياسة الدول العربية تجاه بعضها، ولكن هذا كله مغلف بغلاف المجاملات والوساطات المستمرة، والتدخلات الشخصية التي كانت ولا تزال هي العلامة المميزة لعلاقات العرب ببعضهم.
فلبنان في موقف الضعيف الذي نجح في تحويل ضعفه إلى نقطة قوة في المفاوضات، وحصل على ما ذهب إليه المثل المشهور: ما لا يؤخذ كله لا يرفض جله.. ومع هذا فهو ليس حراً في قبول الحل الذي أخرجه وزير الخارجية الأمريكية، ولكنه في الوقت نفسه ليس حراً في رفض الحل كذلك.
وسورية لا تستطيع أن تدع “إسرائيل” تحقق مكاسب إستراتيجية في جنوب لبنان، تشكل تهديداً مباشراً للأرض السورية، ولكنها في الوقت نفسه لا تريد حرباً مع “إسرائيل” وهي وحدها في الساحة العربية.
والأردن يتفرج حالياً، لعل وعسى، ولكنه يضع يده على قلبه بانتظار المجهول، ولا يدري ماذا يخبئ له الزمن، وهل ستنجح “إسرائيل” في حملتها لتحويله إلى وطن بديل للفلسطينيين؟
والعراق مشغول بحربه مع إيران، وربما كان في التطورات الأخيرة على صعيد العلاقات السوفييتية الإيرانية، عنصر إيجابي من وجهة النظر العراقية، بحيث يرمي الاتحاد السوفييتي بثقله إلى جانب العراق وربما كان لهذا أثر في العلاقات العراقية السورية، وربما قاد هذا إلى فك الحصار النفطي الذي يعيش فيه العراق، وأدى إلى استئناف ضخ النفط في الأنابيب عبر الأراضي السورية، وإذا حدث هذا فإن آثاره الإيجابية ستتعدى العراق نفسه إلى دول مجلس التعاون الخليجي، أما إذا لم يحدث فإن آثاره السلبية سوف تتفاقم.
والسعودية تتفرج هي الأخرى، وتستمر في إبداء النصح والمشورة، والكل يقصدها طلباً للنصح والمشورة، وهي في موقف الذي يجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر، ولكن السعودية أصبحت الآن تعي أكثر من قبل أن التهديد “الإسرائيلي” يقبع مباشرة على حدودها، وإن علاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة تحتم عليها مساعدة الولايات المتحدة في دور الوسيط، وإن كانت شكوكها في قدرة الولايات المتحدة على ممارسة دور الوسيط العادل، آخذة في التزايد، وإصرارها على أن تقدم الولايات المتحدة دليلاً على قدرتها على الضغط على “إسرائيل”، ممثلاً في جلاء “إسرائيل” عن لبنان، وفي إيقاف بناء المستوطنات “الإسرائيلية”، وربما قالت الولايات المتحدة الآن: إنها حققت الشرط الأول.
ولكن السؤال: هل نجاح الولايات المتحدة في تحقيق الشرط الأول سيقوي من قدرتها على تحقيق الشرط الثاني أم سيضعفها؟ ذلك أن السوابق “الإسرائيلية” تقود إلى الاعتقاد بأن “إسرائيل” وافقت على الجلاء المشروط من لبنان لقاء ثمن كبير، ربما كان في الكف عن مبادرة ريغان.
وباقي دول مجلس التعاون الخليجي تنتظر المحتوم، وتراقب تطورات الأمور، وما يرسم لها من دور، وهي في هذه الأثناء مشغولة بشؤون بيتها الملوث، تحاول بقدر الإمكان علاج جراحها دون أن تجرح هذا أو تخدش ذاك حتى لا يزداد الجرح عمقاً، ويصل التلوث إلى تهديد أبجديات الحياة فيها.
والغائب الأكبر مصر، كالأسد الجريح الذي يرى أفراد أسرته الصغار معرضين لهجوم الضباع المفترسة، وهو مشلول الحركة، فاتفاقيات “كامب ديفيد” أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي “الإسرائيلي” مهما حاولنا تلطيف ذلك وتغليفه بعبارات مطمئنة وودية، ولكن ليس معنى ذلك أن مصر خرجت عن دورها العربي، فهذا ضد طبيعة الأشياء، ولهذا فإن مصر تأثرت أكثر من غيرها، وهي ترى “إسرائيل” تفترس لبنان، وهي – أي مصر – مشلولة الحركة، ولقد أثر الغزو “الإسرائيلي” في ضمير مصر تأثيراً عميقاً، ولكن مصر تعرف أن الزمن معها ومهما طال الأمد.
والمأساة العربية تشبه المأساة (تراجيديا) الإغريقية القديمة من حيث أن أبطال الرواية يعرفون مصيرهم المؤلم، ومع ذلك يستمرون في السير نحوه، تحركهم قوى خفية لا قدرة لهم على مواجهتها.
وموضوع مصر يعكس الموقف العربي الراهن بصورة واضحة، فالكل يعرف أن مصر ارتبطت، وأنها لا تستطيع الآن فك الارتباط، ولقد شهدنا من خلال ما يكتب هذه الأيام كيف تم ذلك الارتباط قد حصل، وعلينا مواجهة الواقع الجديد مهما كرهنا، ومع ذلك فلا يزال يوجد بين العرب من يضع شرطاً لعودة مصر، هو تحللها من ارتباطاتها، والواضح الآن أن هذا غير ممكن، وقد نتج عن هذه الشروط التعجيزية أن فترت حماسة مصر نفسها للعودة إلى العمل العربي المشترك بشكله السابق، واختارت بدلاً عن ذلك أن تمارس دورها كما تفسره هي بطريقة انتقائية، فلا تزعج نفسها بكل هموم العرب مثل ما كانت عليه الحال في سابق الأزمان، إذ يكفيها همومها، ولكنها تختار كيف ومتى تتدخل، وبأي شكل وأي أسلوب يكون التدخل، ورغم أن الشعور العدائي ضد العرب، الذي برز لفترة ثلاث سنوات تقريباً في مصر قد اختفى، وحل محله إحساس عربي صادق، فإن شعوراً آخر قد رسخ أقدامه في التفكير المصري، خلاصته أنه ليس في مصلحة مصر الآن العودة إلى الجامعة العربية التي أصبحت أطلالاً وهيكلاً عظمياً أفرغت الأحداث لحمه، وتركته عارياً!
ولكن إذا لم تعد مصر، وبأسرع وقت ممكن، فإن الضياع العربي سيستمر، والخرق سيتسع، ولقد نبه الكاتب منذ عدة شهور إلى أن معركة عودة مصر يجب أن نحاربها في مصر نفسها، وليس من خلال التعليق الخارجي، فمصر كيان تاريخي قديم ومستمر وليس أسهل عليه من السير منفرداً، وإذا نظرنا إلى تاريخ مصر العربي نجد أن هذا قد حدث مرات عديدة بدءاً من أحمد بن طولون، مروراً بالعديد من الكيانات المستقلة التي مرت بمصر، وانتهاء بعصرنا الحديث، ولهذا فإن على العرب ألا يتركوا مصر تسير في هذا الطريق، وإلا فسيكونون هم الخاسرون.
وليبيا تعيش كما يبدو في عالمها الثوري الخاص، واهتماماتها تتجه أكثر فأكثر نحو أفريقيا والدول المحيطة بها، ولهذا فهي تبتعد – وتساعدها الجغرافيا في ذلك – عن الشؤون العربية بطريقة تدريجية.
ويبقى النور الوحيد الذي يطل على الموقف العربي الراهن، هو ما حصل وما يتوقع حصوله بين دول المغرب العربي الثلاث تونس والجزائر والمغرب، وحتى التفاؤل الذي ساد بعد اجتماع الملك الحسن بالرئيس بن جديد حل محله الآن نوع من التحفظ، ولكن الأمل يبقى في أن يتحكم العقل وتسوى الخلافات.
وأخيراً وليس آخراً؛ نجد أن منظمة التحرير الفلسطينية قد بدأت تمزق نفسها داخلياً، ونجد رئيسها يضطر للالتجاء إلى غير العرب يوسطهم ضد أشقائه العرب، بعد أن تعذر عليه كف شرهم.
هذا هو الموقف العربي الراهن، وهو موقف يمتاز بأنه فاقد الاستقلالية في اتخاذ القرار، وبأنه أصبح جزءاً من اللعبة الدولية بين العملاقين الكبيرين، وبأنه خاضع الآن للتصرفات الجريئة والعدوانية للدول القوية في منطقة الشرق الأوسط نفسها، وعلى رأسها “إسرائيل”، وأن أبطال المأساة (التراجيديا) الإغريقية يؤدون دورهم بانهماك شديد، ويسيرون نحو مصيرهم المحتوم، سير الشاة المتجهة إلى المذبح.
هل تستمر الأوضاع كما هي عليه الآن؟ إذ يبدو أن التحريك لن يأتي من الحكومات، ولكن هذا الشرق الأوسط المتميز برماله المتحركة لا يمكن أن يركن إلى الهدوء، ولا يخلد إلى الراحة، ولن تدع أحداثه حكوماته تقنع بالمكتوب عليها، وتنزوي خلف ستار الحفاظ على الموجود، فحتى هذا الموجود قد يختفي بين غمضة عين وانتباهتها، ولهذا لا بد من التحرك قبل حدوث الزلزال وانهيار البيت على من فيه.