November 3, 1982

بمناسبة الأحداث الجسام التي تمر بها المنطقة، فقد وجد الكاتب من المناسب طرح موضوع قديم ولكنه متجدد دائماً، ولئن كان يُعتبر مشكلة في الستينيات والسبعينيات، فهو في رأي الكاتب أصبح الآن مشكلة ومعقدة، وازدادت تعقيداً وخطورة، وقد تم إعداد هذا البحث منذ ستة شهور للنشر بانتظار الوقت المناسب، ويبدو الوقت الآن مناسباً جداً بالنظر للتغييرات المصيرية التي يمكن أن تفرزها الأحداث الدائرة حولنا، وكذلك بمناسبة قرار مجلس الأمة الحكيم برفض التعديلات المقترحة على قانون الجنسية التي تفرض قيوداً جديدة.

هذا الموضوع قديم جداً بالنسبة لاهتمامات الكاتب، وقد كان مدار أبحاث وتوقعات طيلة الستينيات وجزءاً من السبعينيات، ثم اختفى من قاموس الألفاظ حتى اختلط على الناس معناه، وساهم في هذه اللخبطة الجهل المتعمد من قبل البعض والجهل الحقيقي لدى البعض الآخر.

وكثيرون يخلطون بين السياسة السكانية والسياسة الإسكانية، رغم أن من الطبيعي أن السكان يسكنون فيما تفرزه سياسة الإسكان؛ أي المنازل، إلا أن الموضوعين مختلفان تماماً ولا علاقة لهما ببعض إلا في مراحل متأخرة.

والكاتب يهمه في هذا البحث موضوع السياسة السكانية، ويود أن يسجل هنا أن هذا الموضوع قد بحث حتى أهلك بحثاً، وملفات مجلس التخطيط القديم تحتوي على أرقام ونماذج واقتراحات وحلول لا حصر لها، وكم من اللجان تشكلت لبحث الموضوع! وكم تفرع عنها من لجان إضافية لمزيد من البحث! ولكن في جميع الحالات يتجمد القرار، يتلاشى من يد الباحثين وكأنه زئبق يصعب الإمساك به، ولكَم تأجل اتخاذ القرار المناسب في جزيئات السياسة السكانية حتى أصاب الباحثين الملل بعد سنوات من الدراسة؛ فكفوا عن إزعاج السياسيين بعد أن فهموا بالإشارة والتلميح ثم بالتصريح أن الدولة لم تكن على استعداد لاتخاذ القرارات التي قد تبدو للمراقب الخارجي بديهية ومنطقية وفي منتهى العقلانية، وخاصة إذا ربطت بمستقبل الكويت ودورها في منطقة الشرق الأوسط، وما يتوقع منها ولها وسط الخضم المضطرب والتقلبات المفاجئة فيها.

ولنبدأ بالتعريف؛ ما السياسة السكانية؟ السياسة السكانية لبلد ما هي في عدد السكان الذين يعيشون في البلد وتوقعات زيادتهم أو نقصانهم مع مرور الزمن وأسبابها ومدى قدرة موارد البلاد على استيعابهم وتوفير الحياة السعيدة لهم، ومدى تأثير عدد السكان على تطلعات البلاد وتحديد دورها ضمن المحيط الذي تعيش فيه، وقدرتها في نهاية الأمر على حماية نفسها من مطامع الطامعين وكيد الأعداء، وهل يكفي عدد السكان لتأدية ذلك الدور.

هذا تعريف مبسَّط للسياسة السكانية، وفي الكويت تشكل السياسة السكانية ركيزة أساسية في التخطيط لمستقبل البلاد وتقرير حجم الخدمات التي يحتاج إليها السكان، وذلك بسبب الوضع الفريد الذي تجد فيه الكويت نفسها؛ حيث يشكل السكان الأصليون نسبة تقل عن نصف سكان البلاد؛ وبالتالي فهم أكبر أقلية في البلاد! وحتى هذا الوضع أصبح مهدداً نوعاً ما؛ إذ إن الأقلية التالية للكويتيين يكاد يقترب عددها من عدد الكويتيين، والاقتصاد القومي يقدم خدمات لجميع سكان البلاد، ويستوعب حاجاتهم بغض النظر عن جنسياتهم.

وأي فاحص للوضع السكاني في الكويت عليه أن يسلم بحقيقة ساطعة لا تقبل النقاش؛ وهي أن الكويت الحديثة لا تستطيع أن تعيش بالكويتيين فقط، فالدولة العصرية التي نمت في الكويت والمعتمدة على الآلة اعتماداً يكاد يكون كلياً تحتاج لأكثر من سكانها الأصليين لإدارتها، وإلا توقفت عجلة الحياة فيها توقفاً تاماً، وليس في هذا ما يضير، فالكثير من الدول التي وصلت إلى درجات عالية من التقدم المادي اضطرت في نهاية الأمر إلى استيراد العمالة الأجنبية التي تساعد في تسيير عجلة الحياة في البلاد، ولنا أن نتصور مثلاً ماذا سيحدث لخدمات الصحة العامة في بريطانيا – وهي خدمات تفتخر بريطانيا بها – إذا قررت بريطانيا إجلاء الهنود والباكستانيين والعرب الذين يشكلون أغلبية العاملين في الخدمات الصحية ذلك أنها ستتوقف تماماً.

وما هو صحيح في بريطانيا وعدد سكانها 55 مليون نسمة فهو صحيح أكثر في الكويت وعدد سكانها الكويتيين حوالي 600 ألف نسمة، رغم اختلاف تصور البلدين لدورهما في المجتمع الدولي؛ وبالتالي تحديد الأعباء الواقعة عليهما نتيجة لذلك.

إذاً؛ من هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى أي نوع من السياسة السكانية سنتبنى في الكويت.

الحاجة إلى غير الكويتيين أبدية ولا يمكن لها أن تنتهي في يوم من الأيام مادام الكويتيون يريدون الحفاظ على المستوى المعيشي الذي وصلوا إليه، وما داموا يتوقعون من الدولة أن تقدم لهم الخدمات التي أصبحوا ينظرون إليها كواجب على الدولة من تعليم وتطبيب وإسكان وإعانة وأسعار رخيصة للماء والكهرباء والهاتف وغير ذلك من الخدمات الأساسية التي تميز مجتمع الرفاه الكويتي، وكل هذه المزايا في مجتمع الرفاه تحتاج لمن يديرها، والكويتيون غير قادرين على ذلك، إما بسبب نقصان عددهم؛ وبالتالي عدم توافر القدر الكافي منهم لإدارة المرافق العامة، وإما لأن مستوى معيشتهم ارتفع فأصبحوا عازفين عن ممارسة العمل اليدوي أو الفني، وأدى التطور الأخير في السنوات القليلة الماضية إلى اتجاه عدد كبير منهم إلى الربح السريع والمضاربة اليومية في أسعار الأسهم والعقار باعتبارها وظيفتهم الدائمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه انطلاقاً من هذه الحقيقة هو: إذا كان غير الكويتيين يشكلون عنصراً دائماً في البلاد، فهل من الأفضل أن نسعى لتثبيتهم كمقيمين في البلاد، أو أن نسعى إلى تحديد إقامتهم وعدم تجديدها والسعي لتغييرهم باستمرار حتى ولو جاؤوا من نفس البلدان؟

كلا الاختيارين له مزاياها ومساوئه، فالاختيار الأول من شأنه أن يوجِد لدى الوافدين استقراراً نفسياً وأسرياً يساعدهم على تأدية واجباتهم ويُكسبهم خبرة خاصة بالكويت لا يمكن الحصول عليها إلا بعد زمن طويل من الإقامة والممارسة، والاختيار الثاني من شأنه أن يجنب البلاد مغبة الإقامة المستديمة للوافدين؛ مما قد يدفع بهم إلى المطالبة بأكثر من ذلك، ولكن مساوئ هذا الاختيار هو في وجود فئة غير مستقرة من الناس لا تكاد تكسب خبرة في شؤون البلاد حتى يُطلب منها المغادرة.

والكاتب من الذين يفضلون الاختيار الأول، فمزاياه تفوق مساوئه، هذا إذا اعتبرنا إقامة الناس قرب موطن عملهم من المساوئ!

فإذا سلمنا بأن الكويت تحتاج دوماً إلى الوافدين، وأن من الأفضل لها أن تشجع هؤلاء الوافدين على الاستقرار والإقامة الدائمة؛ نستطيع أن نرسم ملامح السياسة السكانية المعقولة التي تنتج عن هذين الافتراضين.

وأول معالمها هو ضرورة تجانس الوافدين مع السكان الأصليين، والحل المنطقي هو في الحرص على عروبة وإسلام الوافدين، والعالم العربي مليء باليد العاملة الفنية وغير الفنية التي ترغب في الإقامة بالكويت لأسباب عدة، ولكن أهمها هو سيادة القانون في البلاد، وضمان حرية الأفراد وأملاكهم وأعراضهم بقوة القانون، وتوافر جو عام من الحرية والراحة النفسية قلَّ أن يتوافر في بلد عربي آخر، بالإضافة إلى توافر فرص العمل بالطبع.

وثاني معالمها هو توفير الجو المناسب لهؤلاء العرب الوافدين كي يشعروا بالاستقرار والطمأنينة.

والسبيل القويم هو في أحد أمرين؛ إما اتباع سياسة مرنة وكريمة في التجنيس مباشرة، وإما اتباع سياسة مرحلية تبدأ بالإقامة الدائمة (والإقامة الدائمة لا تعني إقامة خمس سنوات، وإما تعني إقامة دائمة حتى وفاة الشخص) وتنتهي بالجنسية.

أي أن الحل في رأي الكاتب لا يمكن أن يخرج عن نطاق التجنيس للعرب الوافدين المقيمين في الكويت، والتجنيس بالطبع لا يعني أننا في يوم وليلة نجنس مئات الألوف من الناس، فهذا وإن كان من الناحية النظرية ممكناً فإنه من الناحية الواقعية مستحيل ومن الناحية السياسية خطر.

ولكن القصد هو إقرار هذا التسلسل التحليلي، واعتماد مبدأ التجنيس الانتقائي باعتباره الحل النهائي لمشكلة عدد السكان في الكويت.

Comments are closed.