November 25, 1982

قال أحد الأصدقاء: “لماذا اخترت أن تثير موضوع انحسار القومية العربية في هذه الظروف وفي هذا الوقت بالذات؟ خاصة أن موضوع القومية العربية أصبح ليس من الموضوعات الشيقة هذه الأيام، بل إنها تكاد تكون من نوع الموضوعات المحرجة، التي اتفق الجميع – أو لنقُل غالبية الناس – على تفادي الخوض فيها، وكأنها مؤامرة جماعية صامتة، وأصبح الحديث فيها يعتبر من بنود ثقل الدم”.

قلت: إن الخوض في هذا الموضوع أصبح أكثر من ضروري، ومن منطلق المصلحة الخاصة بمنطقة الخليج والجزيرة العربية، وهو أضعف الإيمان، وإن إثارته في هذا الوقت بالذات يضع أمام أنظار الساسة الإطار الحقيقي الذي يجب أن تدور فيه السياسة العامة، بعد أن كادت الأحداث تقودهم إلى طريق ضيق خاص بالمنطقة وفي نطاق مجلس التعاون الخليجي، وبعد أن كادت تجاربهم واحتماؤهم ببعضهم يفقدهم حدة الوعي بالأخطار الخارجية المحدقة بمنطقتهم.

ولا بأس من العودة إلى بعض البديهيات بالنسبة لموضوع القومية العربية، والكاتب لا يرغب في إضاعة وقته في وضع قوالب فلسفية ونظريات خاصة بالقومية العربية.. القومية العربية في نظره يجب ألا تخرج عن نطاق إيمان الشعوب التي تتكلم باللغة العربية، وشعورنا بالرغبة وبالضرورة التي تحتم تلاحمها واتحادها بأي شكل من الأشكال؛ وذلك بهدف حماية نفسها وابتغاءً لمزيد من المصلحة المشتركة التي يعم خيرها الجميع، وضماناً لاستقلالها ولسيادتها على أراضيها ومواردها، فالعرب لا يجمعهم عرق واحد، ولا أصل واحد، ويجري في دمائهم خليط من دماء شعوب الأرض قاطبة، ذلك أن عظمة الحضارة الإسلامية هي في أن رُسلها – أي العرب – خرجوا من جزيرة العرب، وخلقوا في فترة قصيرة واحدة من أعظم إمبراطوريات العالم، ولم يلبثوا أن عرَّبوا الشعوب والأقطار التي أدخلوها ضمن تلك الإمبراطورية، وكان سلاحهم الفتاك في ذلك هو التزاوج مع الشعوب التي حكموها في ظل تلك الإمبراطورية؛ ولهذا نجد العربي الأسود والعربي الأشقر، وكل ما بينهما من الألوان والظلال، ولم يبقَ في الجزيرة العربية في تلك الأيام إلا القبائل الهاشمية، أما القبائل الهامة والسيدة، فقد غادرت جزيرة العرب لتعرب الإمبراطورية الإسلامية الجديدة من المحيط الأطلسي حتى الصين.

ومع ذلك؛ ومع مرور الوقت وعامل الزمن والجغرافيا؛ فإن تلك الشعوب والأمصار عادت لتركز نفسها من جديد، ويتغلب عليها طابعها المحلي الخاص بها، ويذهب الكثيرون إلى أن حكم العرب انتهى مع حكم بني أمية، وأن الذي خلفه هو حكم شعوب إسلامية أخرى غير العرب، إلى أن نصل إلى عصرنا الحاضر حيث كان العالم الإسلامي والعربي تحت حكم الأتراك، واللغة العربية الحديثة إنما بدأت في الازدهار منذ القرن التاسع عشر، وساعدتها وتساعدها الآن أجهزة الإعلام والصحافة والسينما وسهولة التنقل والاتصال والسفر بين الشعوب العربية، وامتزاجها وتزاوجها من جديد.

إذاً.. لو سألنا من هو العربي؟ فالجواب: أن العربي هو كل من تكلم اللغة العربية وشعر بأنه عربي، وارتبط بأحاسيسه وعواطفه ومصالحة مع العرب، وذلك بغض النظر عن أصله وفصله وتصنيفه العرقي، أما إذا أردنا أن نعرف العربي حسب نقاوة دمائه العربية فلن نجد من ينطبق عليه هذا الوصف إلا القلائل من الذين لا يزالون يعيشون في مجاهل العصور الغابرة، وأدى عدم اختلاطهم بغيرهم إلى تدني قدرتهم العقلية، وتشويه أشكالهم الخارجية وتفشي الأمراض الوراثية بينهم بسبب تزاوجهم من بعضهم بعضاً، فالذي يميز العرب عن غيرهم هو قدرتهم على الاختلاط بالآخرين وصهرهم وتعريبهم، وإنتاج جنس جديد متفوق.

والآن: ما علاقة ذلك بما يجري في الساحة الخليجية والجزيرة العربية؟

العلاقة تقول: إن دول الخليج والجزيرة العربية المنضوية تحت لواء مجلس التعاون الخليجي لا يزيد مجموع سكانها عن عشرة ملايين نسمة من العرب حسب التعريف الموسع للعرب وعلى أحسن تقدير، والأكثر من هذا أن هؤلاء الملايين العشرة خدمتهم الظروف بوجود الثروة النفطية التي ساعدتهم على تخطي الزمن والقفز من مراحل التخلف ودخول القرن العشرين من أوسع أبوابه، ولكن هذا كله تم مظهرياً ومادياً، أما فكرياً واجتماعياً وعلمياً وتكنولوجياً فلا يزال سكان منطقة دول مجلس التعاون الخليجي في بداية مرحلة الدخول إلى القرن العشرين؛ ولهذا فإن قدرتهم على مواجهة التحديات الهائلة التي تلوح بالأفق الآن والتي تهدد وجودهم وكيانهم مشكوك فيها، وربما سأل سائل: وهل هذا المقياس ينطبق على شعوب الأرض الأخرى في الدول النامية؟ ولماذا لا يطلب من هذه الشعوب أيضاً أن تكون في مستوى التحدي الذي يهددها؟ والجواب هو أن مشكلة هذه المنطقة من العالم هي في أهميتها وموقعها المتوسط من ناحية، وفي ثروتها من الطاقة والوقود من ناحية أخرى، وحتى الطاقة الشمسية إذا تم تطويرها وتسخيرها لخدمة الإنسان؛ فإنها ستزيد من أهمية المنطقة وحسابات العالم.

ولهذا؛ فإنها ستبقى محط أنظار الطامعين، ومسرحاً للصراعات الدولية المتنوعة، ومجالاً للقوى المحلية الطموحة.

ومعنى هذا أن المطلوب منها قد يفوق ما هو مطلوب من غيرها من قدرات ذاتية على الصمود وعلى التطور بسبب مكانتها المركزية في السياسة الدولية.

وإذاً.. فإن الملجأ الوحيد لسكان هذه المنطقة هو في حملهم لواء العروبة والدعوة إلى الاتحاد والوحدة العربية، والانضواء تحت مظلة أوسع وأكبر من المظلة المحلية محدودة القدرة وهي مظلة القومية العربية باعتبارها الطريق الوحيد والحقيقي أمامهم للصمود والبقاء تحت السيادة الذاتية والاستقلال الحقيقي، وذلك بغض النظر عن آرائهم الخاصة وعواطفهم الشخصية، إن مصلحتهم تحتم عليهم ذلك، بل إن بقاءهم كدول مستقلة يفرض هذا الاتجاه.. وحينها.. وإذا أقروا بهذا المنطلق، فإن سياستهم تجاه العرب الآخرين تتكيف منه وعلاقتهم بهم تحكمها وتسيرها مصلحتهم الحقيقية ذات البعد الإستراتيجي الواضح، وليس ما يبدو أنه مصلحة الآن، تركز على الخصائص الذاتية للمنطقة، وتفكر ضمن حدود الواقع الحالي، وهو واقع يبدو وكأنه سراب خداع يصور للناس أنهم آمنون، أو يكفي قيام مجلس التعاون الخليجي ليكون المظلة الواقية والحامية لهم، بل وذهب البعض إلى الإعلان عن هذا الكيان كقوى عالمية جديدة، وهو في الواقع أبعد ما يكون عن ذلك.

إن الاتجاه العربي الصحيح يحتم الآن إحداث تغيير جذري وسريع في سياسة دول مجلس التعاون الخليجي تجاه مصر، واتخاذ خطوات إيجابية لعودتها إلى الصف العربي، فمظلة القومية العربية لا تنفتح ولا تظل أحداً إذا لم يكن عمودها مصرياً، والذي يتردد الآن في أوساط المحللين والمفكرين أن بعض العرب لا يريد عودة مصر إلى الصف العربي؛ لأن مصر إذا عادت ستتبوأ القيادة بصورة عادية وطبيعية، وهو أمر لا يريده هؤلاء الآن لاعتقادهم بقدرتهم هم على قيادة العرب، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تشجع هذا الاتجاه، فمصر قائدة العرب والمتمتعة كذلك بعلاقات وديه مع الولايات المتحدة، تشكل ثقلاً هائلاً وعنصر ضغط كبيراً على الولايات المتحدة نفسها، أما الآن فوجودها خارج المحيط العربي الرسمي يفقدها هذا الثقل، ويجنب الولايات المتحدة مشكلة مواجهتها بهذا الشكل، كما يمكن الولايات المتحدة من التعامل مع العرب الآخرين وهم محرومون من ثقل مصر الإستراتيجي والعسكري؛ فتستطيع بذلك أن تفرض عليهم ما تعتقد هي وحدها بصوابه، أما التمسك بالشكليات في موضوع عودة مصر، فإنه يخدم أهدافاً أنانية ضيقة الأفق، لا يهمها الآثار الإستراتيجية الخطيرة المترتبة على بقاء مصر الآن خارج المحيط العربي الرسمي، في الوقت الذي يعاد فيه رسم خريطة المنطقة العربية، ونقترب أكثر فأكثر من مرحة الدويلات الطائفية، التقسيم الجديد للأمة العربية، وتتفاقم الأخطار والتهديدات المحيطة بنا شرقاً وغرباً.

هذا ما يقصده الكاتب حينما يقول: إن الإيمان بالقومية العربية يجب أن يكون ممارسة يومية، تنعكس على التصرفات، وتحدد سير الاتجاهات في سياسة الأفراد أو في سياسة الدول العربية.

فرغم أفول شمس الوحدة العربية، ورغم زوال فكرة الاتحاد العربي حتى من الأحلام، يبقى هناك أمل واضح في تحقيق التعاون والتنسيق بين الدول العربية من منطق الحد الأدنى الذي تمارسه مجموعات دولية في مختلف أنحاء العالم، ومن منطلق الخطر المشترك والمصلحة المشتركة، وحينها تكون العوامل الأخرى التي يضرب بها المثل كسبب من أسباب الوحدة كاللغة والدين والتاريخ المشترك وغير ذلك، تكون هذه عوامل مساعدة تسهل تحريك الأمور وتسيرها، ولكن الأساس يبقى هو المصلحة المشركة والأخطار المحدقة بالجميع.

Comments are closed.