June 30, 1983

من هم العرب؟ ربما يبدو هذا السؤال بديهياً أو قديماً؛ بمعنى أنه سبق طرحه وسبقت الإجابة عنه، ولكن أهميته تفرض أن يعاد طرحه باستمرار، وذلك حتى لا تنسى، وحتى لا تضيع الهوية العربية في خضم الأحداث اليومية والمشكلات العصرية التي تواجه الناس.

والكاتب يعتقد مع الكثيرين أن العربي هو كل من تكلم اللغة العربية، وأحس وشعر بأنه عربي، وذلك بغض النظر عن أصله وفصله وعرقه، ومعنى هذا أن الملايين ممن يتكلمون اللغة العربية الآن وكان أصل أجدادهم أتراكاً أو أكراداً أو إيرانيين أو شركس أو بربر أو زنوجاً واندمجوا في المجتمعات التي يشكلون الآن جزءاً منها بحيث أصبح شعورهم عربياً وتفكيرهم عربياً وأمانيهم عربية.. هم عرب بالمفهوم الحديث لمعنى العروبة.

وانطلاقاً من نفس التحليل، فإن هناك حفنة من العرب الذين يمكن أن يرجعوا بأصولهم إلى قريش وإلى القبائل اليمنية ولا يزال أحفادهم يتكلمون اللغة العربية، ولكنهم لا يشعرون بأنهم عرب بل ويخجلون من الانتماء إلى الأمة العربية، ويوجد منهم في لبنان الكثير، وهؤلاء يجب أن نقرهم بأنهم ليسوا عرباً، فالعروبة لا تأتي بالإكراه، وإنما بالاختيار، اللهم إلا إذا قررنا أن نتبع النظرية “الهتلرية” في تحديد وتصنيف العرب؛ فيصبح الدم والنسب هما الأساس الوحيد للتعريف، وحينها لا يستطيع هؤلاء أن يتخلوا عن عروبتهم لأنهم عرب غصباً عنهم!

وقد لفت نظر الكاتب تطور حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأثناء انعقاد مؤتمر الصلح الذي تم فيه إعادة توزيع تركة الرجل المريض الذي مات وهو الدولة العثمانية، إذ تنشر الصحف والمجلات العربية هذه الأيام وثائق تاريخية عن تلك الحقبة تعتبر غاية في الأهمية، ولعلها تلقي الكثير من الضوء على تطورات الأمور في منطقة سورية الطبيعية التي تضم سورية الحالية ولبنان والأردن وفلسطين.

ولعل من أهم تلك الوثائق الوثيقة التي قدمها عدد من رجال الفكر والمثقفين إلى مؤتمر الصلح في فرساي، وفيها يحاولون إنكار هوية سورية العربية، وقد نشرتها مجلة “المستقبل” في عددها الصادر بتاريخ 9 أبريل 1983م ضمن سلسلة في ذكرى جبران خليل جبران أحد الموقعين على تلك المذكرة، والسلسلة بقلم أنطوان عبد المسيح، تقول المذكرة الموجهة إلى السكرتير العام لمؤتمر الصلح:

“نحن الموقعين أدناه أعضاء المجلس التنفيذي للرابطة الوطنية السورية اللبنانية للتحرير، نحتج بشدة على الادعاءات المقدمة من مندوب الحجاز إلى مؤتمر الصلح (ويقصدون بذلك الملك فيصل الأول) التي تزعم أن السوريين يرحبون بسيطرة عربية على سورية وفلسطين.. إن السوريين على عكس ذلك، مقتنعون بأن الاحتلال العربي للأرض السورية قد أضر باستقرار المستقبل السوري، وأن الضرر سيصبح كبيراً إذا استمر هذا الاحتلال.. إن السوريين ليسوا عرباً، واللغة العربية فرضها الفتح العربي، إننا نرجو سعادتكم عند صياغة الشكل السياسي لسورية، أن تأخذوا بعين الاعتبار كأساس مبدئي حق الشعوب في تقرير مصيرها، ودرجة نموها وثقافة العناصر السورية المختلفة، وليس التفوق العددي للجماهير الجاهلة التي يتحكم في مواقفها التعصب الديني لا العقل.

إن السوريين المنتمين لعناصر التقدم في كل أنحاء العالم هم عملياً مُجمعون بشدة على قيام وحدة فيدرالية في سورية الطبيعية كلها تحت حماية وقيادة قوة كبرى واحدة وديمقراطية.

إن ارتباطاً وحيداً من نوعه عبر التاريخ وعلاقات تربوية حديثة ومصالح اقتصادية، فضلاً عما هو أكثر واقعية؛ أي التدخل الفعال لتخليصنا من الإبادة عام 1860م (يقصدون تدخل الدول الغربية في أحداث جبل لبنان في ذلك العام)، كل هذه الأسباب تجعل ميلنا إلى فرنسا واعترافنا بجميلها أمراً طبيعياً، ونحن نترجاها أن تتحمل مسؤولية حمايتنا وتوجيهنا، إننا نرجو سعادتكم ألا ترفضوا لفرنسا هذا الامتياز الذي هو حقها، وهو حق جعله مقدساً وغير قابل للنقد، موت ربع مليون مسيحي على يد الأتراك بتهمة تعلقهم بفرنسا”.

الموقعون:

أيوب ثابت: رئيس الرابطة الوطنية السورية – اللبنانية للتحرير – السكرتير السابق للجمعية العامة للإصلاح المنعقدة في بيروت عام 1913م.

جبران جبران: سكرتير عام.

سلم ملدوكي: ممثل سورية في ذكرى 4 تموز في مون فرنون.

الدكتور نجيب بربور: رئيس جمعية بيروت.

إبراهيم موكد: رئيس جمعية دمشق.

وليم كاتزافليس: الرئيس السابق لجمعية الاتحاد السوري.

جوزف خوري: رئيس تحرير “الشعب”.

شكري نجاش: رئيس تحرير “الفتاة”.

نعمة تادرس: رئيس جمعية طرابلس.

سعد عقل: سكرتير رابطة التجار السوريين.

عبد المسيح حداد: رئيس تحرير “السائح”.

نسيب عريضة: رئيس تحرير “الفنون”.

ويقول السيد أنطوان عبد المسيح في نفس المقال: إن أكثر ما يفاجئ قارئ الثمانينيات في هذه المذكرة المقدمة لمؤتمر الصلح الموقعة من جبران وغيره دون ميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، هو الموقف الرفضي القاطع لكل ما هو عربي وبشكل غير مباشر لكل ما هو إسلامي، ومع أن المسائل التي تطرقت إليها المذكرة قد أصبحت محسومة تماماً عام 1983م إلا أن مجرد معالجتها عام 1919م بالشكل الذي عالجتها فيه المذكرة يثير استغراباً شديداً، فقد ركزت المذكرة الوثيقة على النقاط التالية:

1- رفض السيطرة العربية على سورية.

2- اللغة العربية ليست لغة السوريين بل هي مفروضة عليهم.

3- السوريون ليسوا عرباً.

4- العرب متعصبون دينياً.

(انتهى المقتطف من المقال).

والقصد من الاستشهاد بما جاء في البحث الشيق الذي نشرته مجلة “المستقبل” على حلقات هو الإشارة إلى حقيقة رفض بعض العرب لعروبتهم إلى حد طلب الحماية الأجنبية لتأكيد ذلك، ولا شك أن استعراض أسماء الموقعين على المذكرة المشار إليها يوضح أن معظمهم من أصول عربية تعود إلى بني غسان، وإلى قبائل اليمن التي تنصرت في فترة من تاريخها واحتفظت بدينها، إذ إن الإسلام لم يُكره أحداً على اعتناقه أيام الفتوحات الأولى، فبقي كثير من العرب على دينهم الأصلي قبل الإسلام.

وبالمقابل، فإن التاريخ حافل بأسماء خالدة لا يمكن للإنسان أن يفصلها عن العروبة، فالمئات من العلماء والمفكرين والشعراء الذين ننسبهم إلى العرب هم من غير العرب عرقاً، وإن كانوا عرباً في ثقافتهم وانتمائهم، وربما استغرب الكثيرون هذه الأيام اهتمام الاتحاد السوفييتي بإحياء ذكرى ابن سينا! ولكن دهشتهم تزول إذا عرفوا أن ابن سينا من مواليد آسيا الوسطى، وربما كانت طشقند هي مرتع صباه، والكثيرون كذلك ينسون أن صلاح الدين الأيوبي الذي أنقذ المنطقة العربية من الصليبيين هو كردي، بل وأن أمير الشعراء في العصر الحديث أحمد شوقي الذي أعاد إلى اللغة العربية رونقها هو كردي كذلك، وأن بطل الاستقلال الجزائري أحمد بن بيللا هو من أصل بربري.

إذاً فالعروبة اختيار وانتماء، وإذا كان غير العرب ممن عاشوا بيننا في حقب التاريخ المختلفة قد اختاروا أن يكونوا عرباً فمرحباً بهم، وإذا كان بعض العرب لأسباب تاريخية كذلك اختاروا التنكر لعروبتهم فهم أحرار كذلك، ولا ينبغي علينا أن نتمسك بهم بل يجب أن نعاملهم كأجانب.

ولكن الأساس ونقطة الارتكاز في موضوع العروبة تبقى هي اللغة العربية، فهي العنصر الجامع وهي المرتكز الذي حفظ هوية العرب على مدى الأزمان والقرون، وهي السلاح الذي قد يحفظ للعرب مكانتهم ومستقبلهم بين الأمم.

فاللغة العربية هي أساس القومية التي بها تتحدد الهوية ويتحدد الولاء، والقومية في العصر الحديث طمست أي شعور آخر، وتغلبت على جميع العناصر الأخرى؛ سواء الدين أو العقيدة، وربما كان المثل الصارخ هو في الحرب العراقية الإيرانية الدائرة رحاها الآن؛ إذ تغلبت القومية في نهاية الأمر على الشعور الديني، ومثال آخر صارخ هو في الخلاف الصيني الروسي حيث تغلبت القومية على العقيدة المشتركة الشيوعية.

Comments are closed.