July 7, 1983

إن أهمية اللغة العربية في حياتنا تبدو واضحة من خلال عجز أعداد كبيرة من الجيل الجديد عن التعبير عن أفكارهم ومعلوماتهم الحديثة بلغة سليمة وسهلة، ولقد كشف تطور علم الاتصالات الحديثة هذا العجز الكبير في الوسيلة الأساسية التي يستطيع بها المرء أن يتفاعل مع غيره، وينقل إليه المعلومات ويستقيها منه وهي اللغة، ولا نحتاج أكثر من الاستماع إلى نشرات الأخبار لنرى اللغة العربية الركيكة، أو أن نستمع إلى خطابات الرسميين في مناسبات رسمية أو غير رسمية لنشعر بالحرج مما نسمعه، ويجعل سيبويه يتقلب في قبره! وإذا أردنا مزيداً من الإحراج فما علينا إلا أن نختار بطريقة عشوائية أي طالب عربي في آخر المرحلة الثانوية ونطلب منه أن يكتب لنا في أي موضوع، لنكتشف إلى أي مستوى انحدرت إليه قدرات الجيل الجديد اللغوية، ومعروف أن العجز عن التعبير يقود إلى شلل في التفكير.

وإذا ذهبنا بعيداً عن المشرق؛ أي المغرب العربي؛ فسوف نجد هناك تناقضاً عجيباً في موضوع اللغة العربية، فمن ناحية نجد أن اللغة العربية قد عمَّ استعمالها الآن في الدوائر الرسمية في المغرب والجزائر وتونس (وإن كان الشاطر الذي يريد إنهاء معاملاته بسرعة يرفق مع خطاباته الرسمية، ترجمة باللغة الفرنسية للإسراع في البت في موضوعه)، ومن ناحية أخرى نرى أن المتكلمين بالفرنسية زادت أعدادهم بعد الاستقلال عنها قبل الاستقلال، والسبب هو أن الحكومات الوطنية أرادت بعد الاستقلال تعميم التعليم فلم تجد أمامها غير التعليم الذي ورثته عن عهود الاستعمار، فاختارت تعميمه، وأدى ذلك إلى انتشار اللغة الفرنسية أكثر مما كانت عليه أيام الحكم الفرنسي، غير أن الجزائر شذت عن هذه القاعدة (إذ كانت “متفرنسة” أكثر من جارتيها ولم تكن بحاجة إلى المزيد من “التفرنس”)، وسيذكر التاريخ للرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين تمسكه العقائدي الصلب بموضوع التعريب وفرضه بقوى الدولة؛ ولهذا فسوف نجد قريباً أن الجيل الجزائري الجديد ربما كان أكثر قرباً وفهماً للغة العربية من الجيل الجديد في تونس والمغرب، رغم أن الرد التونسي المغربي سيكون أنهم اختاروا التعريب البطيء بقصد المحافظة على مستوى المناهج التعليمية في غيبة العدد الكافي من المدرسين الأكفاء الناطقين باللغة العربية.

أما في المشرق، فإن اقتحام الحضارة الأمريكية بقشورها وأدواتها السحرية أدخل إلى لغة الكلام كثيراً من الاصطلاحات الأجنبية، وغرس في مفهوم الكثير من الناس أن التمدين والتحضر هو الرطنة الأجنبية، والإكثار من استعمال الألفاظ الأجنبية، والحرص على تعليم الأطفال اللغات الأجنبية قبل لغتهم الأم، بل والتوجه نحو التعليم الأجنبي بشكل عام باعتباره المنقذ للأبناء من التعليم الوطني العام الذي اعتبره هؤلاء تعليماً بمستوى منخفض.

ويبدو أن مركب النقص الذي يسري في عروقنا معشر العرب تمتد جذورها إلى ما قبل وقتنا الحاضر، وربما كان أساسه حملة نابليون في أواخر القرن الثامن عشر إلى مصر وما صحبه من علماء ومفكرين وضعوا أسس ما نسميه النهضة الحديثة في مصر، ومن ضمنها برامج التعليم، وعن طريق مصر انتشرت نظم التعليم الحديث في معظم البلاد العربية، وأخرجت أجيالاً من المتعلمين الذين لا يزالون يعانون من موضوع هويتهم القومية.

وكما أسلف الكاتب في الموضوع السابق، فإن العرب ينفردون دون غيرهم من الأمم في القرن الماضي، وانتشرت بعد ذلك في الشرق، أسهم في دعم ذلك الاتجاه الذي بدأ في مصر.

وكما أسلف الكاتب في مقال سابق، فإن العرب ينفردون دون غيرهم من الأمم في عزوفهم عن لغتهم والتوجه نحو اللغات الأجنبية، بل واختيار التعليم الأجنبي لأبنائهم.

في المقالة التي أشرنا إليها ونشرتها مجلة “المستقبل” بتاريخ 9 أبريل وكانت بمناسبة ذكرى جبران خليل جبران، نرى التناقض في شخصية جبران من حيث توقيعه على المذكرة المرفوعة إلى مؤتمر الصلح في فرساي التي ينفي فيها عروبة سورية، ثم تطوره فيما بعد إلى نقيض ذلك حين يتحدث عن تكوين الذات العربية حتى قبل الإسلام، ويتيه فيها شغفاً، ولكنه يصل إلى القمة في عرضه لمشكلة التعليم الأجنبي وأثر ذلك على الشعور العربي والهوية العربية، وذلك في مقالة في كتابه “البدائع والطرائف” بعنوان “مستقبل اللغة العربية” إذ يقول فيها:

“هل يعم انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية وتعلم بها جميع العلوم؟

لا يعم انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة، ولن تعلم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية.

ففي سورية مثلاً؛ كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا وما نزل نلتهم خبز الصدقة لأننا جياع متضورون، ولقد أحيانا ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا.. أحيانا لأنه أيقظ جميع مداركنا، ونبه عقولنا قليلاً.. وأماتنا لأنه فرَّق كلمتنا، وأضعف وحدتنا، وقطع روابطنا، وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها، فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً فرنسياً، والشاب الذي لبس قميصاً من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا.. إلى آخر ما هناك من المدارس، وما تخرجه في كل عام من الممثلين والمعتمدين والسفراء، وأعظم دليل على ما تقدم اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سورية السياسي، فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الإنجليزية يريدون أمريكا أو إنجلترا وصية على بلادهم، والذين درسوها باللغة الفرنسية يطلبون من فرنسا أن تتولى أمورهم، والذين لم يدرسوا بهذه اللغة أو تلك لا يريدون هذه الدولة أو تلك بل يتبعون سياسة أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مداركهم، وقد يكون ميلنا السياسي إلى الأمة التي نتعلم على نفقتها دليلاً على عاطفة عرفان الجميل في نفوس الشرقيين، ولكن ما هذه العاطفة التي تبني حجراً من جهة واحدة وتهدم جداراً من الجهة الأخرى؟ ما هذه العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غاية؟ ما هذه العاطفة التي تحيينا يوماً وتميتنا دهراً؟

نعم سوف يعم انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية، وتعلم بها جميع العلوم فتتوحد ميولنا السياسية وتتبلور منازعنا القومية؛ لأن في المدرسة تتوحد الميول، ولكن لا يتم هذا حتى يصير بإمكاننا تعليم الناشئة على نفقة الأمة، لا يتم هذا حتى يصير الواحد منا ابناً لوطن واحد بدلاً من وطنين متناقضين أحدهما لجسده والآخر لروحه”.

انتهى كلام جبران خليل جبران.

ويلاحظ القارئ أن هذا الحوار الممتع دار في الربع الأول من هذا القرن، وأن أجراس الإنذار المنبهة إلى الخطر قد دقت منذ ذلك الوقت، وأن مثقفي هذه الأمة قد حذروا من مخاطر التعليم الأجنبي وفي لغات غير اللغة العربية منذ أمد بعيد، وأن تأثير اللغة في تركيب الشخصية وصياغة الهوية وتحديد الانتماء وإبراز الولاء للوطن هو تأثير أساسي وجوهري لا يعادله أي تأثير آخر، وأن هذا الأمر كان مفهوماً ومعلوماً للسلطات الاستعمارية التي حكمت البلاد العربية حتى بداية عهد الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، وقد أشار الكاتب في مقال سابق إلى تقرير بنرمان وهو أحد رؤساء وزراء بريطانيا عام 1905م، الذي تحدث فيه عن كيفية إضعاف المنطقة الواقعة بين الأطلسي والخليج العربي، وأشار إلى أن اللغة العربية هي من الأسس التي يجب التركيز على مهاجمتها وتقويضها بأساليب مختلفة تطرق إليها التقرير، ولا يزال الكاتب يبحث ويفتش عن نسخة من ذلك التقرير، إذ حين سأل عنه في مكتب المطبوعات الرسمي في لندن قالوا له: أي تقرير تقصد؟ ولا يزال البحث مستمراً.

Comments are closed.