انعقد في أوائل مايو 1983م مؤتمر فريد من نوعه في البلاد بدعوة من وزارة التخطيط، وكان موضوع البحث في المؤتمر “مستقبل النمو السكاني والتطور الاقتصادي والاجتماعي في الكويت”.
وقد دعت وزارة التخطيط ما يقرب من ستين شخصاً من مختلف التخصصات والمهن، تجمعهم صفة مشتركة هي تمتعهم بالمؤهلات العلمية العالية المطعمة بالخبرة الحافلة التي تمتد إلى الثلاثين عاماً الماضية من تاريخ النهضة الحديثة في الكويت.
وكلفت الوزارة عدداً من الباحثين الكويتيين والعرب بتقديم مجموعة من الأبحاث، جرت مناقشتها على مدى أربعة أيام متوالية، واشترك في إدارة المناقشة كل من رئيس مجلس الأمة السيد محمد يوسف العدساني، ووزير المالية السابق السيد عبدالرحمن سالم العتيقي، ورجل الأعمال المعروف السيد يوسف إبراهيم الغانم، ووزير المالية والتخطيط السيد عبداللطيف يوسف الحمد، وذلك حسب التسلسل الزمني لإدارتهم الجلسات، وتولى تقديم الأبحاث كل من الدكتورة سعاد الصباح، والدكتور حازم الببلاوي، والدكتور محمد رفيق الخجا، والسيد عبدالله النيباري، والدكتور محمد الرميحي، والدكتور خلدون النقيب، والدكتور إبراهيم سعد الدين، والسيد سليمان عبدالرزاق المطوع، وكاتب هذا المقال.
ولقد أبرزت مناقشات المؤتمر حقيقة ساطعة ذكرها أحد المتكلمين حين قال: إن ما نثيره الآن هو نفس ما سبق إثارته قبل عشر سنوات، وزاد آخر فذكر أن النقاش نفسه دار تقريباً في بداية الخمسينيات، ولا بأس في ذلك، ويذكر الكاتب أن أحد زملائه ذكر له مرة أنه استمع إلى محاضرة في جامعة كولومبيا، وكان المحاضر يتحدث عن أخلاق الجيل الجديد، وكيف أنه جيل مستهتر لا يشعر بالمسؤولية ولا يقدر الجيل الذي سبقه، وكيف أنه ضحل التفكير.. ويقول الزميل: إن جميع الحضور افترضوا أن المحاضر كان يتحدث عن الأوضاع السائدة حالياً في أي بلد من بلدان العالم، إلا أنهم فوجئوا بأن المحاضر إنما كان يقرأ لهم من كتاب لأفلاطون كتبه قبل بضعة آلاف من السنين! ولعل هذه الحادثة تثبت أنه لا جديد تحت الشمس، وأن الإنسان هو الإنسان مهما اختلفت مذاهبه وتنوعت مشاربه وتفاوتت أزمانه، والفرق هو في كيفية المعالجة، وفي طريقة التصدي لمواجهة ما يثار من قضايا وأمور، وفي توافر الوسائل التي تساعد على ذلك، وفي استيعاب تلك الوسائل وتسخيرها وتوظيفها لحل تلك القضايا.
ولهذا؛ فالجديد من الأوضاع الكويتية الآن هو أن الكويت أصبحت حافلة بالخبراء والمختصين سواء من أبنائها أو من العرب الذين أقاموا فيها فترة طويلة ففهموها واستوعبوا خصائصها، ولكن المهم هو في الحقيقة الأولى؛ أي في وجود أعداد كبيرة نسبياً من الكويتيين الذين بدؤوا حياتهم المهنية وهم على درجة عالية من العلم، ثم مارسوا الحياة العملية فكسبوا من ممارستهم خبرة لا تقدر بثمن، والفضل في هذا يعود بلا شك إلى النظام الذي سمح لهم بتكوين الخبرة مع ما يصاحب ذلك من أخطاء تُرتكب.. وعِبَر تُكتسب.. وتجارب تُحتسب.
والآن كيف يمكن للبلاد أن تستفيد من هذه الخبرات المحلية المتوافرة، التي بدأت المؤسسات الإقليمية والدولية والأكاديمية تستفيد منها وتستغل إمكانياتها؟ والأمر المفترض بالطبع هو أن البلاد تريد أن تعتمد على كفاءات أبنائها وخبراتهم، وإلا انطبق علينا مثل “لا كرامة لنبي في قومه”، أو المثل الشعبي الآخر “العنز البلدية تحب التيس الغريب”.
فالبلاد الآن تزخر بالخبرات المتراكمة، وخاصة في علاج أمور إدارة البلاد، وعلى الأخص ما يتعلق باقتصاد البلاد وقضاياه وشؤون التنمية البشرية والاجتماعية، وما يتفرع عنها في قضايا التعليم والطبيب والإسكان وأمور الأمن.
وليس المقصود بالبلاد الحكومة فقط، وإنما المقصود بالبلاد كل مؤسسات الدولة والمجتمع، وأول مؤسسة تحتاج إلى هذه الخبرات هي مجلس الأمة، فالمجلس تنقصه الخبرات والكفاءات العلمية في جهازه الذي يخدمه في اللجان المتخصصة، ولا يوجد بين أعضائه من يمكن إطلاق صفة الخبراء عليهم، ولهذا حبذا لو أكثرت اللجان من الاستعانة بالخبراء الكويتيين في مداولاتها، ويمكن لكل لجنة أن تضع في أمانتها قائمة بأسماء عدد من المختصين في الشؤون العامة تستعين بهم وبخبرتهم كلما شرعت في دراسة قانون ما، أو طرأ عليها فكر معين.
وثاني مؤسسة تحتاج إلى هذه الخبرات هي مجلس الأمة كذلك، ولكن على شكل أعضاء في المجلس، فالنخبة الكويتية المثقفة يجب أن تتصدى للعمل النيابي، وتتحمل مشقة المعارك الانتخابية وإمكانيات الفشل فيها من أجل أن يشعر بها المواطنون الكويتيون الذين لا يجب التقليل من قدرتهم على التجاوب مع تطورات الزمن، والواضح الآن لدى معظم الناس أن ممثليهم في مجلس الأمة يجب أن يتمتعوا بصفات غير الصفات التي كانوا ينشدونها منهم، وتنحصر في ملاحقة المعاملات الخاصة بالناخبين، وتقديم الخدمات المباشرة لهم، واقتراح وسائل جديدة ومتجددة للصرف والبذخ.
البلاد الآن بحاجة إلى أن يطعم مجلس الأمة بعدد من الخبراء والعلماء الكويتيين، وعلى هؤلاء أن يتصدوا للمعارك السياسية يقتحموها خدمة للبلاد وليس خدمة لأنفسهم.
ولقد أوضحت مناقشة القضايا الاقتصادية وقضايا الاستثمار النفطي، وقضايا الميزانية والوضع المالي المكفهر، خلو المجلس من الخبرة المطلوبة والعين النافذة التي تستطيع مواجهة الحكومة ومناقشتها، وتعرف كيف تطلب المعلومات منها وكيف تحصل عليها وكيف تقارعها الحجة بالحجة.
ولا شك أن الأيام الجسام القادمة ستزيد من أهمية مجلس الأمة، وتتطلب نوعية جديدة من الأعضاء الذين يستطيعون التصدي لمطالب العصر وتحدياته، ولديهم لشجاعة على مواجهة أزمات البلاد، وطرح الحلول المناسبة لها، حتى ولو كان ذلك غير مقبول من ناخبيهم في المدى القصير، ومثال ذلك موضوع الضرائب وعلاقته بعجز الميزانية العامة، وموضوع الجنسية والتجنس.
وثالث هذه المؤسسات هي الحكومة بالطبع، ولقد أوضحت مناقشات المؤتمر التخطيطي الأول أن الحاجة قد أصبحت ماسة الآن لإعادة مجلس التخطيط، وقد أشار إلى ذلك عدد من المتكلمين الذين دعوا إلى عودة شكل من أشكال النقاش الدائم في القضايا التخطيطية، واقترح أحدهم أن يجتمع المؤتمر نفسه كل ثلاثة أشهر لبحث نقاط محددة، وإبداء الرأي وإسداء النصح بشأنها، وإعادة مجلس التخطيط مطعَّماً بالخبرة الكويتية المشار إليها سيكون عاملاً مساعداً للدولة في رسم سياستها ووضع قواعد جديدة لمواجهة مستقبل البلاد.
ورابع هذه المؤسسات هي جامعة الكويت، ويبدو أن الجامعة وخاصة كلية التجارة والاقتصاد والعلوم السياسية انتبهت إلى هذه الحقيقة، وبدأت في الإكثار من دعوة الخبراء الكويتيين للمساهمة في الندوات والمحاضرات والحلقات الدراسية التي تعقدها؛ مما يتيح للطلاب إثراء فكرياً كبيراً.
وبعد.. كان المثقفون والمتعلمون الكويتيون يواجهون في الستينيات والسبعينيات نغمة أنهم وإن كانوا يتمتعون بالعلم، فإن ما ينقصهم هو الخبرة، والآن توافر العلم وتوافرت الخبرة، وبقي على هؤلاء أن يتصدوا لأخذ زمام المبادرة في تقديم أنفسهم للبلاد، وفي عدم انتظار التكليف لهم من الغير، فالوطن بحاجة إليهم الآن أكثر من ذي قبل.