من الأمور التي طرحتها أزمة السوق للمناقشة موضوع التقاليد التجارية التي كانت سائدة في البلاد، والتي اعتدى عليها أناس جدد دخلوا السوق بأسلوب طارئ وتعاملوا بغير تلك التقاليد.
ولا بد من فحص هذا الرأي فحصاً دقيقاً، فالذي حدث هو أن المتعاملين في السوق كانوا يستندون في تعاملهم إلى الكلمة، وكانت هذه الكلمة “اعتمد” تكفي للارتباط بالملايين، وقد تم الارتباط بالملايين فعلاً بدون وثائق ثبوتية، ولكن اعتمدوا على الكلمة فقط.. ولا يمكن أن يدعي أحد أن هذا ليس من التقاليد التجارية العريقة، فالثقة التي كانت موجودة تعني أن المتعاملين كانوا ينظرون إلى بعضهم على أساس أنهم أناس شرفاء، ويجب ألا نخلط بين ذلك التقليد وما حدث بعد ذلك اعتباراً من أغسطس حينما انهار كل شيء، وشمل الجميع، واختفى أثر الكلمة المشهورة حتى بين الشرفاء.. هذه واحدة.
والثانية هي ما يقال عن المخاطرة والمغامرة والتهور في اتخاذ القرارات الاستثمارية، ولا ندري في أي “خانة” يضع المرء عمليات “الاتجار” بالمعادن الثمينة التي سادت البلاد بعد اندثار مهنة الغوص على اللؤلؤ؟ ولقد كانت تلك العمليات مليئة بالمخاطر ومحفوفة بالعواقب الوخيمة، وكم هي الحالات التي فقدت كل ثروتها من خلال المخاطر والمضاربة، وحتى التهور، وجاء وقت كان الناس كلهم منشغلين بهذا النشاط.
وأثناء الحرب العالمية الثانية حصل ما يعرف بالستة (والستة هو مكان البورصة في بومبي)؛ حيث تاجر الكثير من التجار في عمليات البيع بالمدد.. يا للدهشة! وكانت تتعلق ببيع البضائع والأغذية بالمدد، ولم يكونوا قد اشتروا تلك البضائع أصلاً، وقد أدى بذلك إلى إفلاس عدد كبير منهم.
ومعنى كل هذا هو أن المخاطرة والمغامرة كانت ولا تزال صفات متأصلة في مجتمع قام على أرض قاحلة وبدون موارد، وكان عليه أن يعيش معتمداً على ذكائه وقدرة وشطارة أفراده، ولا أحد يذكر أن الكويت في تاريخها قبل النفط عانت من نقص في المواد الغذائية أو قحط أو مجاعة، كما كانت الحال عليه في الجزيرة العربية التي هاجر الناس منها فراراً من تلك الحال، ومعنى ذلك أن قدرة وشطارة الكويتيين هي التي أوجدت لديهم مجتمع رخاء نسبي دائم منذ إنشاء الكويت في قدوم أول فوج من المستوطنين من نجد.
ولا شك أن الذي يغامر ويخاطر ثم ينجح ويكوِّن ثروة يميل بعد ذلك إلى المحافظة على تلك الثروة، ويكف عن المخاطرة، ومع مرور الزمن ينسى أنه بنى تلك الثروة من المخاطرة، ويبدأ في إلقاء المحاضرات على الفوج الجديد الذي يسلك نفس المسلك، ربما لأن سلوك هؤلاء الجدد قد يذكره ببعض من سلوكه في الماضي.
فالكويت قامت على قدرة وشطارة ومهارة تجارها، والطبقة التجارية لا بد أن تكون طبقة متجددة تضيف إلى صفوفها أفواجاً جديدة من كل جيل وإلا أصابها الجمود والكسل وتدهورت.. والكويت القائمة على التجارة تتميز باستعداد كل أهلها للتجارة وخوض غمارها؛ ولهذا نجد صفات التجار الجدد تتكرر بين فترة وأخرى، وتمر البلاد بفترة تضريس إلى أن يتأقلم الجيل الجديد من التجار ويدخلوا ضمن الأسرة التجارية وتخف مخاطرتهم ومغامرتهم بعد أن يكون قد سقط منهم في الدرب من بالغ في المخاطرة والمغامرة، وحينها تنتفي عنهم صفة الطارئين، ويحل محلهم طارئون جدد أكثر عنفاً وإقداماً واندفاعاً وهكذا إلى أن يتم ترويضهم.
والقصد من كل هذا التحليل هو ألا نبالغ في إلصاق صفات خيالية بأنفسنا حتى إذا فاجأتنا الأحداث، كما حصل في أزمة السوق؛ صرنا نندب الأخلاق التي ضاعت والتقاليد التي كسرت، بينما الواقع هو أننا تجار عاديون مثلنا مثل أي مجتمع تجاري، والشطارة والذكاء والمغامرة من الصفات المميزة للمجتمع التجاري، ولم يظهر أحد حتى الآن يعتبر أن الشطارة والذكاء والمغامرة هي من الصفات المذمومة.