February 3, 1983

عدد من القراء فوجئوا بما نقله الكاتب في المقال السابق عن مجلة “الإيكونومست” من حيث دعوة بعض الأوساط في الغرب إلى التضحية بعدد من كبار البنوك، بل والتضحية بالسمعة المصرفية التي بنيت على مدى قرون في سبيل تحطيم أي قوى ذاتية للعرب سواء من النفط أو من المال.

ولقد قادت تلك المفاجأة عدداً منهم إلى المتابعة الدقيقة لتعليقات الإذاعات الغربية، ومنها “صوت أمريكا ولندن”، وخاصة في نقلهما لأقوال الصحف الأمريكية والبريطانية، ولاحظ معظمهم أن الصحافة في البلدين تركز على هذه النقطة بالذات، وتسهب في الاجتهاد حولها بل وتطويرها، وقد أشار الكاتب إلى أن مجلة “الإيكونومست” تطلق عادة بالون اختبار وتنبيه، أو تقود الرأي العام، أو بعبارة أصح تقود صانعي الرأي العام في اتجاه معين، ثم تتركهم يتوسعون في تحليل تلك الآراء وإضفاء مختلف الرتوش عليها.

والوصول إلى إقناع الناس بها عن طريق التكرر والتهيئة النفسية وإزالة عنصر المفاجأة منها، وهذه هي الأساليب وفنون الإعلان الحديث الذي يتسرب إلى أذهان الناس ويتسلل إلى أفكارهم دون أن يشعروا بذلك، ودون أن يلحظوا أنهم يعرضون لغسيل مخ شامل، ويذكر القراء كيف تمت تهيئة الشارع العربي لعملية غزو لبنان من قبل “إسرائيل”، بحيث إنه لم يفاجأ أحد بها حين حدثت؛ وبالتالي لم تكن هناك ردود فعل غير متوقعة.

ونلاحظ أن الأوساط التي تطرح فكرة دفع بعض البنوك العالمية للإفلاس عن طريق إعلان عجزها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه زبائنها من الدول النفطية هي أوساط عالمية؛ أي أنها ترتبط مع بعضها بعضاً بروابط ووشائج تتخطى حدود الدول، ومنها – كما أسلفنا – عائلة روتشيلد التي تضم بين أفرادها جنسيات بريطانية وفرنسية وسويسرية وأمريكية سواء مباشرة أو عن طريق النسب والزواج؛ ولهذا فإن مصالحها غير مرتبطة ببلد واحد، إذ إنه واضح أن انهيار بنوك عالمية منها – مثلاً – بنوك بريطانية لن يكون في صالح بريطانيا، كما أن انهيار أسعار النفط سيكون بمثابة الضربة القاضية على الاقتصاد البريطاني، ويؤثر سلباً على ميزان المدفوعات في بريطانيا، ولكن هذا لا يهم في رأي الأوساط ذات المصالح العالمية متعددة الجنسيات؛ إذ إنها ترى أن المصلحة العليا للغرب ككل تفوق مصلحة أي بلد غربي مهما كان مهماً.

فيما عدا الولايات المتحدة بالطبع؛ نظراً لحجمها وبأسها الشديدين.

هذا هو ما يخططون لنا، وقد ينجحون فيه وقد لا ينجحون، ولكن الواضح أن نجاحهم أو عدم نجاحهم سيكون بسبب تقييمهم هم لضرورة هذا الإجراء وحساب الأرباح والخسائر المترتبة عليه، وليس بسبب أي إجراء مضاد يتخذ من قبلنا على الأقل حتى هذه اللحظات.

وليس من مهام الكاتب – أي كاتب – أن يدخل في تفاصيل اقتراحاته أو آرائه، ويقدمها على شكل برنامج محدد للجهات الرسمية، فهذا يعتبر تطاولاً غير مقبول، ولكن من واجب الكاتب في الشؤون العامة أن يطرح اتجاهات عامة، وأن يقترح مسارات معينة، وربما رؤي فيما بعد أن تلك الاتجاهات والمسارات تتطور وتتغير حسب مقتضيات التنفيذ، ويدخل عليها من التعديلات ما يغير جوهرياً من ماهيتها.

فمثلاً اقتراح “الإيكونومست” بالقضاء على احتياطيات الدول النفطية عن طريق تفليس بعض البنوك الكبرى قد يتم قبوله شكلاً ويتحمس له البعض، ولكن قد تكتشف السلكات (إذا فكرت في وضعه موضع التنفيذ) أن تطبيقه موضوعياً ستكون له عواقب وخيمة تسبب من الأضرار ما يفوق أي فائدة تجنى من وراء ترويض وإخضاع الدول النفطية ذات الفائض المالي.

وهذا قد يقودهم إلى تعديل الاقتراح (مع قبول أهدافه الأصلية) والتخفيف منه وتوجيهه وجهة لا تكون واضحة وجلية للعيان كما نادت به مجلة “الإيكونومست”، وإنما تكون مخفية وملبسة بلباس أنيق يسهل من خلاله تقديمها بطريقة لا تثير الشكوك من قبل الضحايا، فتدفعهم إلى اتخاذ خطوات يائسة.

وهذا التحليل ينطبق على ما نادى وينادي وسينادي به الكاتب حول توجيه بعض الفوائض النفطية إلى البلاد العربية، واعتبار ذلك جزءاً من الاحتياطي العام.

إذ قد يقول قائل: إن الطاقة الاستيعابية للدول العربية والإجراءات الإدارية المتخلفة والمنتشرة فيها، وعدم ثبات القوانين والتحاليل والتلاعب في تطبيقها هي أسباب وجيهة تعوق تدفق رؤوس الأموال العربية العامة إلى البلاد العربية التي تحتاج إليها، مضافاً إلى ذلك أن الحسبة التجارية البسيطة توضح أن المردود على المال المستثمر قد لا يكون مغرياً في كثير من الأحوال.

والجواب على ذلك هو في قبول الفكرة شكلاً وموضوعاً باعتبارها هدفاً إستراتيجياً أساسياً، ثم الدخول بعد ذلك في التفاصيل التطبيقية التي قد تعدل من المضمون الأساسي للفكرة نفسها بدون المساس بهدفها الإستراتيجي، ويكون هذا بالاعتماد على الخبرة المكتسبة في طرق أبواب الاستثمار في البلاد العربية، والدخول في مفاوضات ومحادثات جادة وهادفة؛ بقصد معالجة العقبات وإزالتها اعتماداً على تلك الخبرة المكتسبة.

والكاتب لم يطرح في يوم من الأيام فكرة تحويل المال العربي بأجمعه إلى الاستثمار في البلاد العربية، فهذا أمر محال وغير واقعي، ولكنه طرح ويطرح وسيطرح باستمرار فكرة زيادة النسبة من المال العربي التي توجه إلى البلاد العربية عن مستواه الحالي، وتحويل قطرات الماء التي تتساقط الآن هنا وهناك ليس إلى نهر هادر بتدفقه المالي، ولكن إلى مجرى معقول الحجم هادئ التدفق ولكنه يتدفق ولا يقف ولا يجف.

وهذا هو ما يتوقعه المرء من الاستثمارات العامة وحتى الاستثمارات الخاصة، فإنها لا شك قد اقتنعت الآن بعد انهيار سوق المضاربات في الكويت أنه لا بديل عن التأني وانتظار المردود بعد بذل المجهود والقناعة بالمستوى المعقول من الأرباح.

والاستثمار في البلاد العربية يتطلب مجهوداً بشرياً فوق العادي، ولا يمكن ممارسته عن طريق التلكس وعن طريق تعيين وكلاء معتمدين في مناطق الاستثمار كما هي الحال بالنسبة للاستثمارات الأجنبية، ولكنه أصبح من الواضح أنه ضروري، وأهميته تزداد مع الزمن، وبقي علينا أن نستغل الوقت الآن حتى تتعاظم الفائدة للجميع.

Comments are closed.