قلنا في حلقة سابقة: إنه أصبح من الضروري أن تسارع الدولة إلى إصدار تشريع خاص، ينهي الحالة الغريبة التي وصلت إليها أوضاع البلاد ويزيل الغموض، ويسخِّر القانون لحل المشكلات، وإلا ما الفائدة من القوانين؟ وما الفائدة من التشريع؟
ومن الضروري كذلك إنهاء “حرب القناصة” التي تواجه البلاد كلما أشرفت الأزمة على الانفراج فتعود بها إلى أول الطريق، وكأن المقصود هو إفراغ الحلول التي توصل إليها العقلاء من أي مضمون حقيقي لها.
ومن الواجب أيضاً الاعتراف بأن الناس لن يستطيعوا فك الترابط والاشتباك والالتزامات فيما بينهم وحدهم، ولو كان هذا ممكناً لبطلت الحاجة إلى التحكيم وإلى القضاء، وقد أثبتت الأرقام الأولية التي صدرت عن شركة المقاصة صدق ذلك، فقد رمى الناس بالكرة مرى أخرى في حجر الحكومة، وأوكلوا إليها مهمة فك الترابط بعد أن حاولت الحكومة أن تحصر بهم هذه المهمة المستحيلة.
كما أن من المهم مواجهة الحقيقة المرة؛ وهي أن صفات التسامح والقناعة والنخوة والشهامة تختفي في مثل هذه الأوضاع – هذا على افتراض أنها كانت موجودة بشكل غير عادي في السابق – وأن الحلول التي تجنب البلاد ويلات الأزمة ومضاعفاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا تترك للتصرفات الطوعية للمواطنين وإنما تفرض بقوى القانون.
وقد ثبت كذلك من الأنباء التي تسربت من شركة المقاصة أن كثيراً من الذين أوكلوا إليها مهمة تحصيل شيكاتهم، وكانوا قد وقَّعوا في السابق على إقرار التوكيل لغرفة التجارة والصناعة وارتضوا حلها؛ عادوا عن إقرارهم وطلبوا من شركة المقاصة أن تعمل على تحصيل مستحقاتهم بالكامل، وذلك بعد أن خيَّرتهم الشركة بين تحصيل مستحقاتهم بالكامل، وما جاء في حل غرفة التجارة، ويعتبر هؤلاء أن الشركة ستقوم بطبع ملايين الدنانير من الورق، أو أن مصباح علاء الدين السحري والجني المختبئ فيه سيحضر لهم أكياس الذهب والفضة بعد أن تمسه العصا السحرية!
ويجب كذلك عدم إغفال إمكانية وجود التدخل الخارجي والدور الهادم الذي ربما مارسه ويمارسه.
وهذا الوضع الاستثنائي يتطلب تصرفاً استثنائياً، وحتى الآن لم يصدر تصرف استثنائي، وكل ما صدر هو أنصاف حلول أو حلول مبتورة.
أما بشأن صغار المستثمرين الذين اشتروا أسهماً في السابق ولم يدخلوا المضاربات ولم يبيعوا على كبار المضاربين المرشحين الآن للإفلاس، هؤلاء ماذا يفعلون بموجوداتهم التي انخفض سعرها إلى حوالي 20% من السعر الأصلي في بعض الأحيان؟ هؤلاء يبدو وكأنهم سيُعاقَبون مكافأة لهم على حسن تصرفهم، أما الذين غامروا فستضمن لهم الدولة حقوقهم بعد تفليس مدينيهم.. أليس في هذا نوع من التناقض؟!
كان من المفروض أن يكون الحل شاملاً للجميع وبسيطاً في وصف الدواء، وأن يكون حلاً اقتصادياً، بالإضافة إلى كونه حلاً سياسياً يهدف إلى تطمين أعداد كبيرة من الناس، وهو كما أسلفنا إصدار تشريع خاص يخفض من حجم المديونية بإرجاعها إلى السعر الأصلي مع إضافة أرباح معقولة إذا كان هذا ممكناً، وإيقاف مفعول المدد في الشيكات عند تاريخ معين؛ وبذلك يتقلص البالون الكبير بجرة قلم، وحينها يمكن البدء بإجراء المقاصة واللجوء إلى الصلح الواقي من الإفلاس، ولكن ضمن السقف الذي يضعه القانون، والقيام برهن الموجودات بعد توقف البيانات التي أدت وتؤدي إلى تدهور قيمتها، وشمول ذلك أسهم الشركات الخليجية بالسعر السائد حالياً، ولقد تساءل أحل المعلقين:
كيف ترفض الدولة رهن الأسهم الخليجية ولكنها في الوقت نفسه تطلب من الناس الوفاء بالتزاماتهم المترتبة على التعامل بهذه الأسهم؟!
تم تأتي بعد ذلك حلول السندات المضمونة من الحكومة التي تحتوي على قيمة مخفضة تقل عن قيمة الشيكات الأصلية وتحمل فائدة محددة ويغذيها صندوق خاص في شركة المقاصة يضم ممتلكات وموجودات المعسرين، ويعكس ثمنها قوله عز وجل: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ) (البقرة: 279).
ربما لم يكن الوقت حينها مناسباً، فالكثير من الناس كان يريد تعريف المشجب وتعليق اللوم عليه، ولكن يتضح الآن أن الجميع غارقون في المسؤولية وعلى رأسهم الحكومة واللجنة الاقتصادية المنبثقة عن مجلس الوزراء التي أشرفت مباشرة على كل ما حصل أو لم يحصل في السوق منذ بداية عام 1982م أو حتى قبل ذلك، ومعنى ذلك أن الوقت الآن مناسب لإصدار تشريع خاص يعالج الأزمة بجميع نواحيها، وربما أخذ هذا التشريع صورة قرار من مجلس الوزراء بالعودة إلى قيمة الشيك الأصلية، وهو أمر ربما يسمح به القانون الاستثنائي الذي صدر في أكتوبر 1982م.
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {159}) (آل عمران).