الأحداث البربرية التي شهدها لبنان أخيراً في ظل الحراب “الإسرائيلية”، تفقد الكلمات معناها، وتزيل عنها قدرة التعبير، ومع ذلك فلا بد من التعبير، والصراخ الذي يمزق الأحشاء كالعجز والإحباط اللذين يشعر بهما كل من بقي فيه ذرة من ضمير وإنسانية، لا يعادلهما إلا العجز والإحباط المضاعف الذي يشعر بهما كل من ينطق باللغة العربية، مضافاً إليها الشعور بالخزي والعار، والإحساس بأن ما هو آتٍ ربما كان أكثر فظاعة مما حدث، وأن ما لحق بالعرب من ذل وهزيمة ليس إلا أول القطر، ويتذكر المرء الآن قول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
ولكن.. هل ينفع البكاء؟
الكاتب لا يعير اهتماماً أكثر من اللازم للهمج الذين يشكلون جنود سعد حداد، أو الفريق “الإسرائيلي” في حزب الكتائب اللبناني، الذي تشير أصابع الاتهام إليه في مقتل الرئيس المنتَخَب بشير الجميل حين بدت عليه بشائر الاستقلالية في القرار، ورغبة في أن يكون رئيساً لجميع لبنان، فهذه الفئات إنما هي وليدة آلة الحرب “الإسرائيلية” الحديثة، التي أصبحت “إسرائيل” بموجبها إحدى القوى الكبرى في العالم.
ومهما كانت فداحة المأساة، وقسوتها؛ فإن ما حدث في مخيمات الفلسطينيين في بيروت ربما يكون قد أيقظ الضمير العالمي بطريقة لم تكن ممكنة دون حدث مأساوي مروع كهذا، والمراقب يرى الآن هوة الخلاف تتسع بين “إسرائيل” ويهود الشتات الموزعين في أنحاء العالم، وخاصة الولايات المتحدة، والذين لم تكن “إسرائيل” لتصبح على ما هي عليه لولا دعمهم المستمر وتأييدهم الأعمى لكل ما كانت تريده.
والكاتب بحكم دراسته للتاريخ، كان يؤمن دائماً بأن الذي سيقضي على “إسرائيل” إنما هو “إسرائيل” نفسها، عن طريق رعونتها وغرورها الذي تعاظم بسبب آلة الحرب “الإسرائيلية” الكفؤة من ناحية، وانحلال وتلاشي القوة العربية من ناحية أخرى.
ولكن.. وقبل أن نقفز إلى الاستنتاجات والتفاؤل بأن غيرنا سيتولى حل مشكلاتنا، فإننا يجب أن نفحص الوضع “الإسرائيلي” الذي ولَّد آلة الحرب هذه، والذي سيبقى معنا إلى وقت طويل جداً، وسيشمل – كما يبدو – أجيالاً عديدة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وقد جمع الكاتب حفلة التقى بها بأحد تجار السلاح في لندن، وتجار السلاح شخصيات غريبة ومثيرة في الوقت نفسه، وقد تطور الحديث إلى وجود هذا التاجر في “إسرائيل” يوم غزت لبنان، وبدأ في وصف ما رأى وقال: إنه رأى جيشاً من النمل يخرج من كل مكان، ويذهب في كل الاتجاهات، وكل فرد فيه يعرف إلى أين يتجه، ومن أين يأخذ ذخيرته، وما دوره في الميدان، وهو يتولى بنفسه وسيلة مواصلاته بالتاكسي، أو بالباص، أو مع إحدى السيارات المدنية المتجهة صوب الجبهة.. أو.. أو.. إلخ، بحيث إن التعبئة العامة للجيش تتم خلال 24 ساعة، حينها يكون عدة مئات من الألوف تحت السلاح في بلد لا يزيد سكانه عن أربعة ملايين نسمة، وهم مدربون أحدث تدريب، وعلى أعلى درجة من الإتقان، و”إسرائيل” تنتج الآن ما يقارب 60% من سلاحها، وتشكل الصناعة الحربية ما يقارب 45% من حجم الصناعة “الإسرائيلية”، والعلماء والخبراء الذين يعملون فيها تدربوا خارجها، وجاؤوها جاهزين، وبعضهم يأتي فقط لتأدية ما يعتبره واجباً حربياً مقدساً، فيستخدم إجازته الخاصة من القوات المسلحة “الإسرائيلية” أو الفرنسية أو السويسرية أو غيرها من الجنسيات ليخدم في آلة الحرب “الإسرائيلية” أثناء تحركها، لمدة أسبوع أو شهر أو أي وقت تسمح به إجازته، ثم يعود إلى بلده، ونصرخ نحن بأن محاربين أمريكيين أو فرنسيين أو غيرهم من الجنسيات كانوا مع الجيش “الإسرائيلي”! ناسين أنهم يهود أولاً وأي جنسية أخرى ثانياً.
ويمضي تاجر السلاح في كلامه فيقول:
آلة الحرب هذه تتطور يومياً، وتسخّر لخدمتها كل وسائل العلم الحديثة، وقد أثبتت تفوقها التقني في تجميد مفعول الصواريخ السورية، كما أن تفوقها معروف الآن لدى جميع العرب لاختلاقها القنبلة الذرية، وهي تطور الآن قنبلة النيوترون التي تقتل البشر فقط ولا تمس المباني والآلات بأذى، وبذلك تغطي “إسرائيل” عجزها البشري في العدد عن طريق تفوقها العلمي والتقني في النوع.
يقول تاجر السلاح هذا: إنه لا يرى في “إسرائيل” دولة وشعب، وإنما يرى آلة حرب غاية في الدقة والكفاءة وعلى أعلى درجة من التدريب.
وهي آلة يتم تسخيرها الآن من قبل أناس متطرفين متعصبين من أمثال بيغن وشارون وشامير، وهؤلاء لا يؤمنون بالمفاوضات والحلول الوسط، وإنما بالحرب والعنف، وقد عكست الصحافة البريطانية هذا الرأي في تعليقاتها على مجزرة مخيمات شاتيلا وصبرا.
هذه هي آلة الحرب “الإسرائيلية” التي تسرح وتمرح في لبنان، وتستخدم نفايات البشرية في تحقيق مآربها، وفي جعل لبنان الموحد المستقل من الأفكار التاريخية، التي يصعب إعادة تحقيقها.
وحين فوجئت بعنف ردود الفعل العالمية، والضمير الإنساني الممزق على ما ارتكبته من فظائع؛ نراها تحاول اللعب بمهارة فائقة كي تزيد النار اشتعالاً في لبنان، فمرة تقول: إن الذين قاموا بالمجزرة هم الكتائب، ومرة تقول: إن الجيش اللبناني نفسه كان متواجداً في المخيمات! ورغم أن هذه الادعاءات لم تغيِّر من آراء المراقبين والمراسلين الأجانب (الذين هم المصدر الوحيد لما يحصل في لبنان، والذين بلغت بطولتهم الشخصية حداً أسطورياً، والذين هم أدوات إيقاظ الضمير العالمي)؛ إذ إن هؤلاء المراسلين رأوا بأعينهم دخول قوات سعد حداد وقوات الفريق “الإسرائيلي” في حزب الكتائب اللبناني إلى معسكرات وبإشراف عسكري “إسرائيلي”، رغم كل هذا فإن الجو المشحون والمكهرب في لبنان هو الأرض الخصبة للإثارة وإيقاظ الغرائز الحيوانية الانتقامية لدى الناس.
المعركة الآن هي في تأنيب الضمير العالمي على ما تقوم به حكومة “إسرائيل” الحالية، وستقدم هذه الحكومة للعالم كل الأسباب التي تزيد من ثورة العالم ضدها، وستستمر في تحدي الأمم المتحدة وأوروبا وحتى الولايات المتحدة نفسها، وحينها سيكون الرأي العام الأمريكي خير معين في إجبار حكومة الولايات المتحدة على استخدام ما لديهما من تأثير عظيم على مقدرات “إسرائيل”، وفي الضغط القوي والصريح عليها، ولعل هذا يؤدي إلى أي حل ممكن، ويبقى علينا ألا نطلب المستحيل، وأن نعي واقعنا الضعيف، وأن نستمع إلى كبير حكماء العرب الحبيب بورقيبة الذي قال: “خذ وطالب.. وما لا يُؤخذ كله لا يُرفض جله”، وأن نقر بأن مصر لم تكن مخطئة تماماً حين انفردت بطريق خاص بها هدفه ترويض الوحش، بعد أن عجزت مصر ومعها العرب عن هزيمته وقتله.