جاء خطاب سمو الأمير عاكساً للتفهم العميق لأبعاد أزمة الأوراق المالية، ولعل أهم جملة وردت في هذا السياق ما أشار إليه سموه من “أن وجه الاقتصاد الكويتي والعلاقات الاجتماعية فيه أكرم وأعز علينا من أن ندع فيه الآثار التي أحدثتها تلك الأزمة أو نتوقف عند رأي أو قرار إذا اقتضى الأمر إلى ما هو أحسن”.
وهكذا نرى أن القيادة الحكيمة العليا للبلاد وضعت يدها على الجرح العميق الذي خلفته هذه الأزمة – أو حتى نكون دقيقين في وصفنا – الجرح العميق الذي نتج عن الخطأ في تشخيص الأزمة، وأدى إلى الطريق المسدود الذي وصلت إليه الحلول والإجراءات المعقدة التي طرحها مديرو الأزمة منذ أكتوبر 1982م، ولقد كلف هذا الخطأ البلاد غالياً، وسيأتي يوم تتم فيه المحاسبة، أما الآن فالجميع مدعوون للاشتراك في رأب الصدع وتخفيف الجراح، رغم أن بعض الأصوات النشاز لا تزال تطالب بالدفع بالكامل وعدم التفريط بحقوق الدائنين؛ أي الإصرار على المطالبة بالأرباح الربوية التي لا مثيل لها في تاريخ البشر.
وحتى لا تضيع المناقشات وتتوه، فإن المطلوب الآن هو وضع النقاط على الحروف:
أولاً: أن الحل الجديد يجب أن يكون شاملاً ونهائياً، وأن يختلف جذرياً عما سبقه من حلول، ولن يفيد البلاد محاولة تلاقي ذلك أو تغليفه وكأنه امتداد لما سبق وتم تطبيقه من حلول.. الوضع الآن هو أن الحلول السابقة فشلت، لأنها كانت حلولاً مبنية على تشخيص خاطئ، وإذا عدنا إلى الصواب، وتم التشخيص الصحيح فإن الحلول تختلف جذرياً عما تم تطبيقه حتى الآن، وللتذكير فإن مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” له تكملة في نص القانون تقول ما يلي:
“العقد شريعة المتعاقدين: فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقرها القانون، ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع بإطلال كل اتفاق على خلاف ذلك”.
مادة (146) من القانون (2 لعام 1961) التي حلت محلها المادتان (196) (197) من القانون المدني رقم (67 لعام 1980).
ولقد حصلت ظروف استثنائية غير عادية، ولهذا فإن مبدأ تخفيض المديونية لا يعتبر تعدياً على القانون الكويتي، وإنما هو جاء في صلبه أن التعدي على القانون الكويتي فهو في تجاهل ما جاء فيه من مبادئ سامية وواقعية.
ثانياً: إذا تم إقرار المبدأ الأساسي وهو تخفيض المديونية، فإن تحديد نسبة التخفيض يصبح أمراً فنياً يكون الهدف منه تخفيض الضرر على أكبر عدد ممكن من الناس، وليس معنى هذا أنه لن يضار أحد، إذ لا بد من الضرر الذي سيقع على البعض، أما مبدأ التقاصص، فإن الصيغة النهائية له ستكون إخراجاً قانونياً يتطلب تفكيراً قانونياً جريئاً ويتمتع بسعة أفق وخيال.
ثالثاً: الحل الجديد يجب أن يتصدى لتطبيقه أناس يؤمنون به، وإلا فإن من السهولة أن يتم إفشاله عن طريق الشبكة المتداخلة من الأجهزة البيروقراطية الجديدة التي نبتت تحت ظل الأزمة، والمهم في الأمر أن نقر بأن البلاد ومصلحتها أهم بكثير من الأشخاص ومزاجهم، والذين يتمسكون بالمبادئ عليهم أن يتصرفوا من وحي تلك المبادئ.
رابعاً: اتضح للجميع الآن أن هذه الأزمة شاملة لا تبقي ولا تذر، وأن البلاد قد وقعت في شباكها، ولهذا يعود الكاتب إلى اقتراحه بتشكيل لجنة وطنية تتصدى لإدارة الأزمة، وتكون ملازمة للمنفذين للإجراءات والقوانين الجديدة، وتضم في عضويتها كل من ساهموا في مسؤوليات الأزمة سواء من الحكومة أو من مجلس الأمة أو غرفة التجارة والصناعة أو المتعاملين في السوق أو أصحاب الرأي؛ وذلك حتى لا تكون مداولتها بعيدة عن الواقع، وحتى تكون بمثابة محطة الاستماع لاختبار إجراءات التنفيذ والبت فيها وتعديلها حسب مقتضيات الظروف، ويمكن أن نشبه هذه اللجنة بغرفة العمليات التي تدار منها المعركة، ويكون تحت تصرفها كل ما يتطلبه هذا الموقف العصيب من بيانات وإمكانيات وخيرات علمية ومحلية.
وبعد.. لقد مرت البلاد بتجربة مريرة، تخطت في مداها كل ما كان ممكناً تصوره في بدايتها، ولقد لمس أمير البلاد وراعيها مدى تأثير الأزمة على علاقات الناس ببعضها، فجاءت إشارته إلى أن العلاقات الاجتماعية أكرم وأعز من أن تترك فريسة لمؤثرات الأزمة.
وهذه البلاد تتكون من مواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، ولا يوجد بينهم من هو أكثر مساواة من غيره، ويجب أن يفهم الجميع هذه الحقيقة، إذا كنا حريصين جميعاً على أن يسود السلام الاجتماعي بين الناس، وتعود إليهم روح التعاون والثقة المتبادلة، أما اللعب بالنار الذي لاحت في الأفق بعض معالمه، فإنه يعكس جهلاً وتعصباً لا مكان لهما بيننا.. فالتعصب يحدث تعصباً مضاداً.. واللعب بالنار يمكن أن تمارسه الأطراف الأخرى.. وفي هذه الحالة لا يوجد غالب أو مغلوب، فالجميع سيكونون مغلوبين، ولنا في لبنان عبرة.. وأي عبرة.