كان أول رد فعل على ما كتبه الكاتب حول اقتراح حل أزمة السوق هو من صديق عزيز ذي رأي سديد وعلم واسع.
قال الصديق: يبدو أنك حدت عن الطريق السوي؛ بأن أقحمت جماهير الشعب من الكويتيين والمقيمين في تحمل نتائج أعمال فئة قليلة من الناس، إذ ما علاقة هؤلاء – وهم غالبية الناس – بما حصل في سوق الأوراق المالية، حتى تطلب منهم أن يشاركوا في تحمُّل التبعة، وتزداد عليهم أسعار الخدمات، وترفع الجمارك؟
أما رد الفعل الثاني، فكان من صديق آخر قال: إنه لو اتبعت الإجراءات القانونية التي أشرت إليها في مقالك، وتمت عمليات التصفية والتفليس؛ فلن يبقى هناك أي عجز؛ وبالتالي ليس هناك داعٍ لمسِّ أسعار الخدمات التي يتمتع بها جمهرة الناس، وإشراكهم في تحمُّل وزر غيرهم.
وقال ثالث: إنه يعتقد أن الجميع سيستعيد أمواله بالكامل، على الأقل رأسماله الأصلي، ولهذا لا داعي للقلق.
ولكن الكل متفق على شيء واحد؛ وهو أن يأخذ القانون مجراه الطبيعي وبكل قوته، وأن يتم تطبيقه على الجميع صغيراً وكبيراً، وبدءاً بالكبير.
ولقد كان من محاسن مشروع القانون الذي طرحته الحكومة لحل مشكلة الأوراق المالية، أنه جنَّب المحاكم سيلاً منجرفاً من القضايا كان سيربكها، ولكن من مساوئه أنه أتاح لذوي الذمم الخربة أن يستغلوا مظلة الحماية القانونية التي أضفاها؛ فيتقاعسوا عن الوفاء بالالتزامات، بحجة انتظار ما ستسفر عنه أعمال شركة المقاصة.
والجميع الآن ينادي بتطبيق القانون، ولقد ذهب الصديق الأول إلى القول بأن هذه الأزمة إنما تخص بضع مئات من الناس، ويجب تركهم للمحاكم تبت في أمرهم، أما اقتصاد البلاد، ونشاط الأغلبية العادية من الناس، فإنه مستمر ولم يتأثر، كما أن أعمال الحكومة التي هي أساس الاقتصاد الكويتي لم تتأثر كذلك.
ولقد اختلف الكاتب معه حول هذه النقطة.
صحيح أن الأزمة لا تخص كل الناس، ولكن الصحيح أيضاً أنها تشمل القاصي والداني، فهي تشمل الشركات الاستثمارية والعقارية والصناعية التي وظفت رأسمالها في السوق، وينطبق هذا على الشركات الكويتية العادية والشركات الخليجية، وكل الشركات المقفلة التي تم إنشاؤها خلال فبراير 1982م، بل أن هذه الأخيرة وظفت معظم رأسمالها في السوق؛ ومعنى ذلك أن الألوف من الناس المساهمين في هذه الشركات أصبحوا طرفاً، حتى لو لم يدخلوا مباشرة في عمليات البيع والشراء، بل وانخفضت قيمة استثماراتهم العادية في الأسهم والعقار.
وهي تشمل التجارة العادية التي تأثرت تأثيراً واضحاً تشهد عليه المخازن والمتاجر والمحلات، وهذا – بدوره – أثر على قدرة أصحابها على مواجهة التزاماتهم العادية، فتوقفوا عن الطلبات الجديدة؛ وبالتالي تأثر تجار الجملة، وهكذا تستمر العجلة، بحيث تجر كل حركة فيها بقية أجزائها.
وليس أفضل من مثال كرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل، والتي تكبر وتتضخم وهي تهوى إلى السفح مضيفة ثلجاً جديداً إلى حجمها الأصلي، ويرجو الكاتب ألا يكون القارئ قد ملَّ من تكرار هذا المثال، ولكنه أفضل مثل يوضح الصورة.
والأزمة تشمل كذلك الآلاف من بسطاء الناس من المقيمين ممن جمعوا مدخراتهم ووضعوها في حساب مشترك فأعطاها ذلك حجماً معقولاً، ثم قذفوا بها في السوق بأسماء كويتية، وأعدادهم ضخمة جداً، ولا يعادلها إلا أعداد الكويتيين العاديين، وأغلبهم من موظفي الدولة ممن ساهموا كذلك بما يملكونه فوضعوه في حساب مشترك آل إلى نفس المصير.
والأزمة أدخلت إلى العجلة الاقتصادية آلاف الناس من الذين تذوقوا الثروة النسبية لأول مرة في حياتهم، وفجأة رأوها أمامهم تتلاشى وتتبخر.
والأزمة أصبحت تؤثر على أصحاب القرار وصانعيه في الدولة والقطاع الخاص ومؤسسات الخدمات المختلفة؛ فتراهم زائغي العيون، شاردي الفكر، غير مهيئين نفسياً لاتخاذ أي قرار.
كل هذه الفئات، والظروف والعوامل تجعل من الأزمة أمراً عاماً وليس أمراً خاصاً؛ بمعنى أن تأثيرها يشمل قطاعات المجتمع كلها، ولا يخص فئة صغيرة من المتداولين في السوق فقط.
الأمر الآن تخطى سوق المناخ، والأسهم وأخلاقيات المتعاملين، وأصبح قضية وطنية لم يسبق أن واجهت البلاد مثلها، ولا يبالغ الكاتب إذا وضعها في مصاف أزمة عام 1961م حين طالب عبدالكريم قاسم بالكويت.
فالمطروح الآن هو سمعة البلاد ومكانتها، والأنظار الآن تفحص في ماضي البلاد الاقتصادي وتصرفاتها، والبعض يقارن الكويت بالمكسيك، والمشكلة باختصار وتبسيط بقدر ما تسمح به القدرة اللغوية هي:
أن هناك شيكات بلا غطاء يصل حجمها إلى بلايين الدنانير.
وأن الموجودات في النظام المصرفي الكويتي لا تشكل إلا نسبة بسيطة من قيمة هذه الشيكات.
وأنه بعد تخفيض قيمة هذه الشيكات، وذلك بإسقاط نسبة الأرباح الربوية المحسوبة عليها، وبعد تفليس العديد من كبار المتداولين الذين لا يستطيعون الوفاء بالتزاماتهم، والاستيلاء على أملاكهم وأموالهم ومدخراتهم بما في ذلك إبطال تصرفاتهم خلال الستة أشهر أو أكثر التي سبقت التفليس، بعد كل هذا وذاك سيبقى عجز عام لا يقل عن بليوني دينار، وهو عجز قومي لا بد من الوفاء به، أما تركه معلقاً فإن النتائج ستكون في انهيار قيمة العملة الكويتية انهياراً تدريجياً ربما يتسارع كلما تأخرت الحكومة في تنفيذ العلاج الذي اقترحه المرسوم الأميري بالقانون الخاص، وهو مرسوم جاء بحل عملي على أساس “ليس بالإمكان أحسن مما كان”.
والحل الذي طرح بالسابق وهو استخدام السندات لمعالجة وتغطية العجز المتوقع يمكن تفصيله على النحو الآتي:
أولاً: يتم تعديل القيمة الواردة في كل شيك لتصبح مساوية لقيمة الأسهم النقدية التي كانت عليها يوم إتمام الصفقة الآجلة.
ثانياً: يعاد تعديل كل شيك بعد ذلك بالزيادة وفقاً لسعر الفائدة الذي يتقرر تطبيقه، والأجل المحدد لكل شيك.
ثالثاً: تتولى شركة المقاصة مباشرة ودون إبطاء استلام هذه الشيكات المعدلة القيمة مقابل إصدار سندات بنفس القيمة، مضمونة من قبل الحكومة، وتكون هذه السندات لأجل عشر سنوات، وتحمل سعر فائدة مناسباً.
رابعاً: تتولى شركة المقاصة بعد ذلك، وبكل الوسائل القانونية المتاحة، ملاحظة المديونية الأفرادية للشيكات الآجلة المعدلة القيمة، التي تكون في حوزتها، وبينما سيكون ممكناً تسوية جزء من هذه الشيكات دون اللجوء إلى الأسلوب القضائي، فإنها ستجد أن جزءاً لا يمكن تسويته دون اللجوء للقضاء.
والتسوية النهائية لجميع الشيكات ستصل بنا في النهاية إلى صافي العجز الحقيقي الذي لحق بالسوق نتيجة لهذه الشيكات، وسيكون هذا العجز معادلاً بطبيعة الحال للقيمة الاسمية للسندات التي تكون قد انتقلت إلى حوزة التعاملين.
خامساً: يبقى بعد ذلك الإطفاء التدريجي لهذه السندات، وأول مرحلة منه ستكون في التصرف بما يتحصل لدى شركة المقاصة من أموال بعد تسوية الشيكات خارج ساحة القضاء، وثاني مرحلة منه ستكون في التصرف بما يتحصل لدى شركة المقاصة من أموال وأملاك نتيجة تسوية المديونية عن طريق القضاء، وذلك بإشهار إفلاس المدينين والاستيلاء على ممتلكاتهم لصالح الدائنين، وثالث مرحلة ستكون استخدام طريقة السحب السنوي لما يتبقى من قيمة السندات بمعدل 10%.
أما موضوع الوسيلة المناسبة والعملية والعادلة لتمويل تنفيذ هذا الحل بما في ذلك دفع الفوائد السنوية المترتبة على السندات لمن يحوزونها وكذلك الجزء المتبقي الخاضع للإطفاء أو الاسترداد، فمن الواضح أنها تعتبر مسألة ثانوية بالقياس إلى الإنجاز الكبير الذي يتحقق بموجب هذا الحل، والذي سيعيد الثقة إلى الاقتصاد الوطني وقدرات أبنائه على تجاوز محنة من أعظم المحن التي حلَّت به.
وقد أشارت بعض الآراء وانتقدت الاقتراح من وجهة نظر إنسانية، باعتبار أن القطار العريض من الناس ليس له علاقة بتصرفات أفراد قلائل في مضاربات الأسهم، ويجب ألا يتحملوا هم مسؤولية عبث هؤلاء الأفراد، كما أشارت إلى العوامل التي تؤدي إلى التضخم حين تضخ الحكومة مالاً لتغطية العجز المتوقع، ولكنها ذكرتْ أيضاً أن ارتفاع أسعار الخدمات يؤدي إلى التضخم، والواقع أنه يؤدي إلى التقلص وليس إلى التضخم، إلا إذا كان ارتفاع أسعار الخدمات مصحوباً بضخ المال في الوقت نفسه؛ فحينها يسيطر التضخم سيطرة تامة، وهو الأمر الذي حذَّر منه الكاتب.
أما القطاع العريض من الناس الذين يكسبون مالاً حلالاً بعرق جبينهم، فإن علاقتهم بالأزمة هي في كونهم قد يجدون أنفسهم عاطلين وبلا عمل، إذا بدأت سلسلة إفلاسات متواصلة لدى أرباب العمل من تجار ومقاولين وشركات بناء وشركات صناعية وعقارية، وإذا توقفت عجلة التجارة – كما هو حاصل الآن – بحيث قد يأتي يوم يصبح فيه دفع المرتبات إلى العاملين مشكلة كبيرة في القطاع الخاص.
وفي مثل هذه الحالات، فإن العلاج قد لا يكون عادلاً من وجهة النظر الإنسانية المطلقة، ولكنه يكون ضرورياً مثل عملية الجراحة التي يسيل منها الدم، أو مثل الكي في العلاج التقليدي، وهو في هذه الحالة يهدف إلى إنقاذ الوضع باتباع سياسات متشددة تشمل الجميع.
وعلى كلٍّ، فإن لدى الحكومة مجالات لا تعد ولا تحصى إذا هي أرادت أن تجبي من الناس مالاً، وربما اختارت المجالات التي تسبب أقل ضرر اجتماعي بالنسبة لمحدودي الدخل، وفي رأي الكاتب أن الوقت يبدو الآن ملائماً أكثر من ذي قبل كي يعتاد الناس في الكويت على الدفع إلى الدولة، بعد أن قضوا الثلاثين سنة الماضية وهم يأخذون منها.
وهذا يتطلب قيادة اقتصادية حازمة، واثقة من نفسها، واعية لحجم المشكلة وأبعادها المصيرية، بعيدة عن النظرة الشخصية في معالجتها للأمور، يساعدها مستواها الثقافي وقوتها الذاتية على التصدي للمشكلة ومواجهتها بقوة.