June 3, 1983

أشرنا بالأمس إلى أن من العوامل التي قد تؤدي إلى إفلات زمام المبادرة من القطاع الخاص، وتحويل الكويتيين إلى مجرد موظفين، أزمة سوق المناخ.

ولقد انجرف إلى سوق المناخ معظم الناس صغيرهم وكبيرهم، وإذا كانت بداية الأزمة قد أفرزت أناساً قيل عنهم: إنهم لم يكونوا معروفين قبل عدة سنوات؛ فإن ذلك لم يكن سوى رأس كتلة الثلج المتجمدة المختفية في مياه المحيط، وكلما انحسرت المياه بان للملأ ضخامة حجمها، ولم تتكشف المياه كلها حتى الآن، ولهذا لا أحد يرى كم هي كبيرة تلك الكتلة، وكم هو شامل امتداد قاعدتها، بحيث إنها لو انكشفت كلياً فسوف لن تبقي ولن تذر.

أما كيف ستقضي أزمة سوق المناخ على مبادرات القطاع الخاص؛ فأمره أصبح واضحاً للعيان.

من ناحية، نجد أن موجودات الناس (وفي الكويت لا تخرج هذه الموجودات عن نطاق الأسهم والعقار) آخذة في التدهور والانحدار في أسعارها، وحتى الذين لم يدخلوا سوق المضاربات من قريب أو بعيد فإنهم الآن واقفون متجمدون وهم يرون الانخفاض المستمر والمتواصل لقيمة أملاكهم وموجوداتهم، ولا يدري أحد هل وصل الانخفاض إلى القاع؟ المنطق يقول: كلا.. لم يصل إلى القاع حتى الآن!

ومن ناحية أخرى، نجد أن الكثيرين ممن ليسوا داخلين في أزمة أو دوامة السوق، أصبحوا مرتبطين بها بحكم تأثرهم بما يحدث للغير، واضطرارهم إلى دفع ثمن أخطاء الغير ممن تعاملوا معهم بحكم السمعة السابقة والسجل السابق، إذ إن مجرد توقف هؤلاء عن الوفاء بالتزاماتهم العقارية أو التجارية (وليس الأسهمية فقط) يعرض دائنيهم لخطر الانجراف إلى أزمة ليسوا طرفاً فيها، ويضطرهم إلى القيام ببيع موجوداتهم وأملاكهم طلباً للستر، ولكن أين المشتري؟ المشتري الوحيد الآن هو الحكومة، وكأنها لم تكتفِ بحجمها الضخم، فأرادت أن تزيده ضخامة! ولكن إذا لم تشترِ الحكومة فإن الأسعار ستنهار أكثر مما انهارت حتى الآن.. وهذه هي الدوامة.. أو هناك مشترون يتربصون، ويتحينون الفرص، وهؤلاء معظمهم من التجار التقليديين الذين لم يدخلوا سوق المضاربات إلا على شكل هامشي وطفيف، ولكنهم مع ذلك مترددون في شراء سلعة قد تنخفض أسعارها أكثر وأكثر، ومعنى هذا أن المطحنة قد تلتهم هؤلاء أيضاً وتجرهم إليها.

ومن ناحية ثالثة، نجد أن الشلل قد أصاب الباقين ممن لم يتأثروا بما جرى في السوق؛ فعزفوا عن القيام بأي مبادرات، منتظرين ما ستسفر عنه الحلول العديدة والإجراءات البيروقراطية الكثيرة، والتفسيرات والاجتهادات التي تؤدي إلى كل شيء ما عدا الوضوح.

إذاً.. زمام المبادرة الذي أشار إليه تقرير البنك المركزي الذي دعا إلى إفساح المجال للقطاع الخاص لأخذه معرَّض الآن للانتكاس بل للزوال، والقطاع الخاص الذي قامت عليه الكويت، الذي ميزها عن جيرانها، مهدد الآن بالانكماش وفقدان صفته الأصلية؛ وهي الإقدام واقتحام المخاطر، وإذا استمرت الحال على ما هي عليه فإننا سنجد أن الكويت قد تحولت إلى دولة موظفين، ونجد أن الدولة قد أصبحت المالك الأكبر – وفي بعض الأحيان الوحيد – لقطاعات تقليدية كانت من اختصاص القطاع الخاص، ومنها البنوك والعقار وشركات الاستثمار والخدمات، وإذا تم هذا لا يبقى للقطاع الخاص مجال للعمل في الكويت، ويعود إلى دور الوسيط والقوموسيونجي، ويفقد دور المستثمر والمجدد ومقتحم المخاطر.

هذا هو الخطر الذي يتهدد البلاد الآن، وإذا كان قد بقي أحد لم يقتنع بأن أزمة سوق المناخ ليست أزمة أشخاص، وإنما هي أزمة نظام كامل مرتبط ببعضه، ونسيج متداخل مع بعضه، فإن هذا يدل على العناد وليس على تقييم علمي لما حصل وتشخيص دقيق للمشكلة.

إذاً.. فتعريض قطاع المقاولات لمنافسة أجنبية غير متكافئة أدى إلى تقلص ذلك القطاع، وانكماش تأثيره في السوق، ولقد أدى إلغاء المناقصة التي أعلنت وتمت ترسيتها في مايو 1983م، وكانت بحجم 200 مليون دينار في قطاع الإسكان، إلى كوارث حقيقية في قطاع المقاولات والقطاعات الأخرى المرتبطة به والخدمات التي تعيش على خيراته.

وفقدان القطاع الخاص لنسبة كبيرة من قيمة الموجودات والعقار بسبب الانتظار غير المجدي الذي يعيش فيه وعدم قدرته على الحركة والتحرك لتعزيز موجوداته، ويؤدي تدريجياً إلى شفط قدرته الذاتية على إنقاذ موجوداته.

واضطرار الكثيرين إلى الوفاء بالتزاماتهم نتيجة للحلول الجامدة التي يجرى الآن تطبيقها والقائمة على افتراضات نظرية وتسجيل مواقف مثل “العقد شريعة المتعاقدين”، وكأن الأزمات العالمية لم تحصل بسبب الإخلال بهذه القواعد الأولية، يؤدي إلى فقدانهم للكثير مما كسبوه في السنوات العشرين الماضية، وكان المقصود هو تحجيم الناس، ولا أحد يدري لمصلحة من يتم هذا التحجيم؟ وهل فات من يطالب بالتحجيم أن تحجيم الناس يقود بالتالي إلى تحجيم المؤسسات التي يتعاملون معها ويؤدي في نهاية الأمر إلى تحجيم البلاد؟!

القطاع الخاص لا بد أن تعود له المبادرة التي أشار إليها البنك المركزي وطالب بها.. وعودة المبادرة إلى القطاع الخاص تكون بإزالة الغموض الذي يكتنفه في موضوع سوق الأسهم، وتغيير طريقة التعامل معه من قبل أجهزة الدولة المختصة في المشروعات، ومطالبة المؤسسات المالية بألا تضغط عليه وهو في أصعب حالاته، وعلى الأخص ألا تلجأ إلى الأساليب الانتقائية في ذلك.

وإذا تم هذا؛ فإن المبادرة تعود، وتؤدي إلى رفع عبء الحمل والثقل الذي يكاد الدولة تنوء به، والذي سيزداد إذا لم يتمكن القطاع الخاص من المعاونة ومن تحمل جزء من هذا الثقل.

أما إذا لم يتم هذا؛ فأبشروا أيها الناس بعودتكم إلى أحجامكم الطبيعية، وحينها سوف تسعدون بالوظيفة الحكومية المضمون دخلها الشهري، وسوف ترتاحون من أي طموحات كنتم قد حلمتم بها لتحسين أوضاعكم.. وإذا أردتم ألا تخدموا في الحكومة؛ فبإمكانكم أن تخدموا مع القلة المتبقية والمحظوظة التي صانت ثروتها، وأدت أزمة المناخ إلى زيادة تلك الثروة.. وإياكم والحسد.. فالحسود لا يسود.. والدين ممنوع.. والرزق على الله.

Comments are closed.