May 26, 1983

الصحافة المصرية هذه الأيام تزخر بالقيم والجيد من الأفكار والموضوعات المتنوعة في الدين والسياسة والأدب ، والاجتماع والفن … ويتساوى في هذا ما يسمى بصحف المعارضة ذلك أنه بالرغم من المعارك المحتدمة بينهما ، فإن المراقب الخارجي المحايد يرى تطورا عظيما في الاثنتين ، ويشبه الوضع بينهما ما حصل في الخمسينات في بريطانيا حين كان الارسال التلفزيوني محتكرا من قبل الاذاعة البريطانية الرسمية وجاء الارسال التلفزيوني التجاري ، فهز كيان الارسال الرسمي من أساسه ، وكاد أن يقضي عليه ولكن المنافس كان لها آثار صحية ، إذ سرعان ما استعاد الارسال الرسمي أنفاسه ، وبدأ ينافس الارسال التجاري بحث نرى الآن أن أمام المشاهد البريطاني مجالا واسعا من الاختيار ، بل أن الاذاعة البريطانية نجحت في جذب المشاهدين لبرامج الارسال التلفزيوني الصباحية، وفشلت الاذاعة التجارية في ذلك .

وهكذا شأن الصحافة المصرية ، إذ لولا صحف المعارضة لبقيت الصحف القومية في وضعها السابق والعادي جدا ، والذي كان يبعث على الملل ، إلا أن التحدي الذي شكلته صحف المعارضة ، وهذا بدور أوضح المعارضة أنه لا يكفي تخصصها في كشف الفساد والفضائح وإنما يجب أن تقدم للقارىء مادة دسمة أخرى ،تتناسب مع ما يحصل عليه منا لصحف القومية .

الملفت للنظر كذلك هو عودة الكتاب الكبار إلى الكتابة وإفساح المجال لهم في الصحف القومية حتى إذا اختلفوا مع توجهاتها أو مع توجهات الحكومة .. وسواء كان فكرهم يمينيا أو يساريا أو بين الاثنين ، وعلى كل … فإن الفواصل الفارقة بين اليسار واليمين والتي كانت واضحة للعيان في الخمسينات والستينات أصبحت الآن باهتة ، وعفى عليها الزمن ..ذلك أن هناك قضايا إنسانية مستجدة يتفق عليها أصحاب الضمائر بغض النظر عن ماضي تفكيرهم السياسي أو حاضره .

فموضوع تلوث البيئة الذي أصبح يهدد حياة الناس ، وموضوع نقل التكنولوجيا واللحاق بركب الحضارة الجديدة، وموضوع الانفلات الذي يسيطر على تصرفات الأفراد والبروقراطية الحكومية ، وموضوع الفساد والرشوات ، وموضوع الديمقراطية وإتاحة الفرصة للآراء المختلفة كي تأخذ نصيبها من العرض ، وموضوع الاتجاه نحو العمل الديني والسياسي ، وحتى موضوعات القضايا القومية المتعلقة بالتهديد الاسرائيلي لمستقبل المنطقة ، كل هذه موضوعات يستوي فيها اليمين واليسار ، ويلتقي فيها أصحاب الآراء الحرة ، وإذا لا يبقى خلاف عملي إلى في موضوع الاقتصاد وملكية وسائل الانتاج والتوزيع والتبادل وحتى هذه ، فإن الفواصل العقائدية فيها أصبحت مع الزمن فواصل غير حادة ، بات موضوع تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد أمرا لا يقبل الجدل بالنسبة لاقتصاديات النظام الحر ، كما أن رفع يد الدولة والعودة إلى تشجيع الحوافز الفردية ، أصبح أمرا مسلما به في اقتصاديات النظام الموجه.

ولعل اشتراك معظم الكتاب المصريين في العودة إلى النشاط الفكري في الصحافة المصرية ، لدليل على صحة وعافية الثقافة المصري التي هي أساس ومنبع الثقافة العربية الحديثة ، وأهم من ذلك كله هو الدماء الجديدة المتدفقة في عالم الفكر والفن والأدب والذي يثبت لمن يساوره الشك أ في مصر معينا لا ينضب .

والذي لا يستوعبه الغرب وهو يحاول فهم علاقة مصر بباقي أجزاء الوطن العربي ، هو عمق التأثير المصري في حياة العرب قاطبة ، وذلك عن طريق الاشعاع الثقافي والفكري والفني ، والذي شهد جدبا في السنوات القليلة الماضية وها هو الآن يعود بحيوية ونشاط يعيدان الثقة إلى النفس ويبعثان الأمل فيها .

وحرية الرأي هي الاطار الأساسي الذي لا بد من توفره لعودة الابداع والخلق الفني والفكري لأي مجتمع ، ذلك أن المجتمع الذي يعيش في ظل الارهاب ، لا ينتج عنه في مجال الفكر إلا ما يعكس تفاهة وضحالة ذلك الارهاب ، أما المجتمع الحر ،فإنه يتيح

لأفراده أن تبزغ ورودهم ، وتينع زهورهم ، وتتجلى أفكارهم ، ويعم خيرهم جيرانهم …
ولهذا فإن تأثير مجتمع الحرية الذي عاد إلى مصر والذي لا بد من تتويجه بتطورات سياسية داخلية ضرورية ، أهمها حرية الانتخابات القادمة لمجلس الشعب المصري ، وحماية حق إبداء الآراء المعارضة مهما كانت عنيفة ، وكشف الستار عما كان يدور في البلاد من تصرفات استثنائية وغير قانونية في فترة من فترات الترهل التي مرت بها مصر ، سيكون تأثيرا هائلا في أنحاء الوطن العربي ، ومن منا لا يتذكر أن العرب بمختلف أنظمتهم كانوا يستعينون بخبراء مصر في القوانين والدساتير سواء كانت تلك الأنظمة يمينية أو يسارية ..
إن إزدهار الصحافة المصرية مرة أخرى هو انعكاس لعودة حرية الرأي إلى مكانة السيادة في اولويات الحياة في مصر …وهذا يعني عودة الفكر الأصيل إلى البروز والتأثير في المجتمع ، وهو أمر يجب رعايته والدفاع عنه .

والمراقب الخارجي للصحافة المصرية لا يشعر أن صحف المعارضة تسىء إلى مصر ، وإنما هي تقدم صورة مشرقة عن عودة حرية الرأي إلى مصر … ومصر لا يضيرها نشر أخبار هنا وهناك عن الفساد وعن التجاوزات غير الشرعية التي كانت تتم … وإنما الذي يضيرها هو كتم أخبار الفساد والتستر عليه ، كما أن نظرة الناس وخاصة أصحاب المصالح إلى ما جرى في هذا الموضوع بالذات ، هي نظرة المطمئن الذي يرى أن يد القانون ستنال من الفاسد ، طال الزمن أو قصر .. وهذا عنصر من أهم عناصر الثقة التي يبحث عنها المستثمر الأجنبي … أي المساواة في سيادة القانون وتطبيقة على الجميع .

وإذا كان موضوع عودة مصر إلى العمل العربي المشترك الرسمي قد سار على غير ما يتمناه المرء ، فإن هذا لا يغير من مدى نفوذ مصر وتأثيرها على العرب ، وذلك بحكم كونها القدوة و تستطيع مصر أن تستغني عن الشكليات الرسمية ، وذلك بأن تستمر في دورها الجديد باعتبارها قدوة لباقي العرب في عودة حرية الرأي إلى الصدارة ، وانعكاس هذا على باقي المؤسسات التي لها علاقة بشؤون الحكم وبحياة الناس .

هذا هو سر نفوذ مصر وقوتها وتأثيرها في العالم العربي .. فحين اتجهت مصر إلى الحكم الفردي ، سايرها باقي العرب ، وحين اتجهت مصر إلى النزعة الاقليمية وتخلت عن النزعة العربية سايرها باقي العرب وحين هبط مستوى الثقافة والفكر والفن وحتى الغناء في مصر تبعها العرب في ذلك ، وحين اتجهت مصر إلى الغرب ورمت بثقلها نحوه ، تبعها بعض العرب في ذلك …وهكذا…

والأن لا بد من العودة إلى الايجابيات في علاقة مصر بالعرب .. فاتجاه مصر الآن إلى الحكم الديمقراطي الفعلي وليس الشكلي فقط سيقود العرب إلى نفس الاتجاه ، وعودة مصر إلى تبني العروبة ولو بشكل غير الشكل الذي ساد في الستينات ، سيوقف من تطور النزعات الاقليمية الضيقة في البلاد العربية ، وازدهار الثقافة المصرية مرة أخرى وتطور الصحافة المصرية ،وعودة الفكر الخلاق إلى ميادين الآداب والفنون ، سيحدث أثره الفعال في باقي العرب ، الذين سرعان ما يتجاوبون معه ، والاعتدال السياسي وموازنة العلاقة بين الشرق والغرب سيعيد الحياة إلى مبدأ عدم الانحياز بين العرب وتطوير الذات العربية والشخصية العربية … وحتى موجات التطرف والتعصب التي انتشرت في الآونه الأخيرة ، كان سببها الفراغ الفكري والثقافي والسياسي الهائل الذي خلفة غياب مصر عن الساحة العربية وتركها خالية ، وستضع عودة مصر حدا لذلك عن طريق مفكريها وكتابها الذين عادوا لامتشاق الحسام واستئناف المعركة من أجل عقل عربي واع ، وفكر عربي ناضج .

والأمل أن تستمر هذه الموجه باعتبارها بريق النور الوحيد في الساحة العربية المكفهرة بالظلام والحبلي بالأحداث الجسام … وأن يهب نسيم الحرية من مصر فيعزز من وجودها في الكويت ، وينتشر ليعم العرب أجمعين.

Comments are closed.