طريف حقاً أن يستمع المرء إلى ردود الفعل لما يطرحه من آراء، ولقد قيل: إن أكثر ما يطمع به الكاتب هو أن يسمع مديحاً لما يكتبه، وأقل ما يطمع به هو أن يسمع ذماً لما يكتبه، ولكن ما يخيفه ويفزعه حقاً هو ألا يسمع أي رأي فيما كتبه.
وبعض الآراء اختلفت فيما ذهب إليه الكاتب، ورأت فيه تكريساً لواقع مرفوض من قبل غالبية العرب، وتساءلت إن كان الكاتب مقتنعاً برأيه هذا، أم أنه أوكل إليه أن يكتب ما كتب.. مع ما يتبع ذلك من أتعاب وعطايا؟!
وآراء أخرى رأت فيما قيل من رأي انعكاساً لمشاعر شعبية عامة، تشعر بالضياع كما يشعر الجند حين يفتقدون قائدهم، إذ إن فداحة الخسارة التي ترتبت على القطيعة بين العرب ومصر أصبحت واضحة للعيان الآن بعد أن هدأت الخواطر والمشاعر.
واللافت للنظر حقاً أن بعض الناس لا يمكن أن يصدق أن هناك آراء يحملها أصحابها دون أن ينتظروا عليها جزاءً ولا شكوراً، فهم بحكم واقعهم يتوقعون أن لكل شيء ثمناً، بما في ذلك الآراء التي قد تطرح للنشر والمناقشة.
ولا شك أن سبب ذلك هو عدم تعوُّد السواد الأعظم من الناس على حرية الرأي، وتبادل الأفكار، والاختلاف المتحضر الذي لا يُفسد للود قضية.
ونعود إلى موضوع إعادة الحساب مع مصر.. فأقول:
إن علاقات العرب بمصر تفوق أي خلاف حدث ويحدث بينهما، وحيث إنني لست في سياق التطرق إلى أسباب الخلاف، فإن الموضوع الأساسي والخطير هو ألا تفلت الأمور من زمامها؛ فيصبح التضامن العربي أصعب من الحلم.
ويوجد في مصر نفسها مدرسة تضم العديد من رجال الفكر والسياسة والاقتصاد، لا تريد لمصر أن ترتبط بالعرب، وهذا الاعتقاد ليس قائماً على كُره العرب، ولكنه قائم على تحليل خاص بهم، يرى أن مصر جزء من أوروبا، وأنها يجب أن تعود إلى الارتباط بها، وهذه المدرسة حاولت أن تفرض هذا الرأي على مصر بقيادة الخديو إسماعيل في القرن التاسع عشر، بل ويقول البعض: إن انحسار الحكم الروماني عن مصر هو الذي فصلها عن أوروبا، ويجب تصحيح مسار التاريخ.
كما توجد في البلاد العربية الأخرى مدارس تقول: إن العرب استطاعوا في غياب مصر أن يسيِّروا أمورهم بدون حدوث خلل في علاقتهم بالعالم، وأنهم بدون مصر أقدر على مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية وتحقيق مستوى أفضل من المعيشة لمواطنيهم، وتجد هذا الرأي منتشراً الآن في دول الخليج العربي.
وفي رأيي أن كلتا المدرستين مخطئة، فالغرب لا يعترف إلا بالغرب، ومهما جامل وداور فإنه لا يقبل بين صفوفه إلا الغربيين، وأكبر مثال على ذلك ما حصل لتركيا التي كانت الأولى بين دول الشرق؛ فأصبحت الأخيرة بين دول الغرب.
أما قِصار النظر في منطقة الخليج العربي الذين يعتقدون بإمكانية الاكتفاء الذاتي، فقد فاتهم أن العصر الحديث لا يقبل بذلك، وأن المال وحده لا يكفي لكسب النفوذ والتأثير في المجتمع الدولي، بل لا بد من توافر الثقل السكاني والعسكري والحضاري لتحقيق ذلك.
والدعوة إلى توجيه الاستثمار إلى مصر لا تعني أن الأمور قد تغيرت بين يوم وليلة، أو أن الإجراءات الحكومية والإدارية في مصر قد سهلت، وأصبحت مرنة، أو أن مجرد إبداء الرغبة في الاستثمار في مصر سيفتح الأبواب على مصراعيها.. كلا.. ليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود هو أن الاستثمار في مصر يعني المساهمة في تنميتها، وأن هذه المساهمة مفيدة لها وللمستثمرين، بحكم المزايا والخصائص التي تتمتع بها مصر دون غيرها من البلاد العربية، ويعني كذلك الاستعداد النفسي والجسماني للتعامل مع الإدارة المصرية، والروتين الشهير الذي بدأ عصره مع الموظف الذي كان يقيس ارتفاع منسوب النيل قبل 6 آلاف سنة.
فالاستثمار بشكل عام لا يمكن أن يتم في بلادنا عن طريق التلكس والتليفون، وهو في مصر بشكل خاص يتطلب تواجداً مستمراً، واتصالاً دائماً، وعلاقات واسعة ومتجددة مع مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية، وهذا النوع من النشاط من شأنه أن يخلق جواً يسهل فيه التفاهم، وارتباط المصالح وخلق الثقة بين الأطراف، وهي أمور أساسية لا بد من توافرها لضمان الحد الأدنى من النجاح للاستثمار.
وغياب المستثمر العربي رسمياً – رغم تواجده فعلياً – عن مصر خلال السنوات الخمس الماضية؛ أدى إلى عدم مشاركته في المناقشات الدائرة حول دور الاستثمار العربي في التنمية المصرية، وأسهمت الأجواء العدائية التي سادت خلال مرحلة معاهدة “كامب ديفيد” في ظهور قيود وإجراءات إدارية غير مكتوبة، كانت تعيق المستثمر العربي بصفه عامة، وأول ما يسأل عنه العربي المتلهف للعودة إلى مصر هو إمكانية الحصول على شقة، ثم تسجيلها باسمه في حالة الشراء.
وإعادة الحساب مع مصر تعني أن يسهم العرب الآخرون في المناقشات الدائرة في مصر حول أمور الاستثمار، فالقانون (43) بشأن تشجيع رؤوس الأموال العربية والأجنبية وضع أساساً كي يجذب هؤلاء، وقد ثبت لمصر خلال سنوات تطبيق هذا القانون أنه لم يفد إليها من أوروبا إلا تجار المصالح الآنية الذين يبيعون خبرتهم وشطارتهم بدون مساهمتهم المباشرة في الاستثمار المجدي، وأنه رغم ما ساد العلاقات المصرية العربية من توتر؛ فإن رأس المال العربي – الخاص على الأقل – لم ينقطع عن مصر، مع وجود القيود التي فرضت أخيراً في المجالات التقليدية كالعقار وتطوير الأراضي، ولا أعتقد أن هذا سيسبب حساسيات خاصة، فالحساسيات زالت بعض الشيء أثناء مرحلة السباب والشتائم، وحل محلها الآن استعداد للتفاهم والمناقشة وتبادل الآراء التي توصل إلى الحلول المقبولة من الجميع، وفي رأيي الخاص أن مصر التي تفاهمت مع عدوها قادرة على التفاهم مع إخوتها، رغم صعوبة العلاقات بين الإخوان.
وسأتطرق في صفحات مقبلة لمشكلات الاستثمار في مصر من وجهة نظر المستثمر العربي.