September 4, 1982

الآن.. وقد بدأت الأمور تعود إلى مجاريها، لا بد من وقفة تأملية قصيرة للتساؤل: لماذا حصل الذي حصل؟ أما الوقفة التحليلية الطويلة فوقتها ليس الآن، وإن كان معظم عناصرها معروفاً للجميع، وسبق أن طرح على الملأ، وضاقت صفحات الجرائد بالتحذيرات في الأشهر القليلة الماضية، ولكن التحليل يحتاج إلى الهدوء، والهدوء الذي ساد في الماضي هو هدوء المتسابق الذي أنهى السباق لهاثه، وخلد إلى الراحة التي تشبه التخدير، ولكن المؤكد أن الأزمة تم احتواؤها، واجتازت البلاد أخطر موقف شهدته منذ الاستقلال، وتم ذلك بالحكمة التي سادت، والتعقل الذي سيطر في النهاية على موقف وتصرفات الحكومة والقطاع الخاص المسؤول، أما القطاع الخاص غير المسؤول الذي يمثله العابثون في السوق في طرف، والشامتون في طرف آخر؛ فقد خسر الرهان، وستثبت الأيام أن لا مكان لهذا النوع من الناس في مستقبل التعامل في السوق.

الوقفة التأملية القصيرة هي نقد موضوعي لعلاقة الحكومة بالقطاع الخاص ونشاطاته، والواضح الآن أن أجهزة الدولة المختصة وهي وزارة التجارة والصناعة من جهة، ووزارة العدل والنيابة العامة من جهة أخرى، ليست في مستوى التطور الذي شهده القطاع الخاص في نشاطه المتواصل خلال العشرين عاماً الماضية، فبينما بلغت معاملات القطاع الخاص حداً عالياً من التقدم والتعقيد، نجد أن أجهزة الدولة المختصة لا تزال تحبو في أفكارها وتصرفاتها تجاه ما يبرزه من مشكلات تفرزها الحركة الدائبة في البلاد.

فالشكل القانوني الذي يمثل الإطار الحالي لعلاقات الناس ببعضها يعتبر بدائياً بالمناسبة لما يحدث بين الناس من علاقات، وخاصة في مجال الرقابة والإشراف اللذين يناطان في معظم الأحيان بأناس ينطبق عليهم قول المتنبي:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي        فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

وقد كان للكاتب مواقف محددة وثابتة خلال عمله في الحكومة من حيث عدم جواز تعيين أشخاص تجعلهم مصالحهم أطرافاً أصلية، في لجان لها صفة الإشراف والتقرير والبت، سواء كان ذلك على شكل مقاولين كأعضاء في لجنة اختبار المستشارين، أو أصحاب مصانع كأعضاء في لجنة تنمية الصناعة، أو تجار كأعضاء في لجنة المناقصات.. وهذا الرأي ينطبق على اللجان التي تشكلت أخيراً للإشراف على السوق المالية، إذ كيف يمكن أن يتولى المتداولون أنفسهم صفة الإشراف؟! إذا كان ذلك ممكناً في الكويت البسيطة البدائية حيث كانت أخلاق الناس من المتانة بحيث تحتمل وتقاوم الإغراءات المادية؛ فإن هذا غير ممكن الآن في وقت يسيل فيه اللعاب وتهوي المُثل، وتتلاشى الأخلاق، أمام الملايين التي تُكتسب بسهولة، وأثبتت التجربة أنها يمكن أن تُخسر بنفس السهولة.

اللجنة التي تشرف على السوق يجب أن يكون أعضاؤها من غير المتعاملين في السوق، أما اللجان التي أنشئت للبت في أمر الشركات الخليجية والمكونة في غالبيتها من أصحاب الشركات الخليجية القائمة؛ فيجب حلها فوراً، وتوكيل عملها للجنة واحدة تشمل جميع أنواع التعامل في الشركات، سواء كانت شركات كويتية أو خليجية أو عربية أو أجنبية، إذا كانت هذه سوقاً للأوراق المالية فيجب أن نعاملها كسوق حقيقية للأوراق المالية بغض النظر عن جنسياتها، ألم يكن ممكناً لو كان هذا هو واقع السوق، أن يستفيد الناس من الفورة الكبيرة التي شهدتها سوق نيويورك في الوقت الذي كان الجمود يخيم فيه على السوق الكويتية؟ إلى متى نستمر في أنصاف الحلول؟ أو الحلول التي تبدأ مستقيمة ثم نحوّلها إلى حلول عرجاء؟ إذاً فجهاز الرقابة الذي يمثل الدولة قاصر عن ممارسة دور فعال في السوق، ويجب التفكير الجدي في هذا الموضوع، واختيار أعضاء لجنة الأوراق المالية من أناس لا يتداولون في السوق، وتكون لهم صفة الضبطية القضائية حتى يتمكنوا من حماية مصالح الناس من التلاعب الذي حصل، وخاصة في المؤسسات المالية، والذي يعرف عنه كل الناس، ولكن لا أحد يتكلم بسبب ارتباط مصالح الناس مع هذه المؤسسات المالية، والخوف من التضرر الشخصي إذا فتحوا أفواههم بالكلام، وحتى يستطيعوا ملاحقة التلاعب وردعه في أول الطريق، وفرض أخلاقيات صارمة في التعامل.

فإذا جئنا إلى القشة التي قصمت ظهر البعير، وهي في رأي الكاتب موضوع الشركات المقفلة؛ فإننا نجد العجب العجاب! هنا مثال على البداية المستقيمة التي أصابها الاعوجاج، الكل نادى وينادي بفتح الباب على مصراعيه لإنشاء الشركات الاستثمارية والعقارية المقفلة، ولا يزال الكاتب عند رأيه الذي أبداه في مقالات سابقة، وخلاصته الدعوة إلى إطلاق حرية إنشاء الشركات بجميع أنواعها، ولكن البديهي في الأمر هو أن تختبر الوزارة جدية أصحاب الطلب لإنشاء هذه الشركات بإجبارهم على تغطية جزء كبير من رأس المال المقترح من أموالهم الخاصة لا يقل عن 25% من رأس المال قبل السماح لهم بإنشاء الشركة، مع التنبيه الشديد بأن أي تصرف منهم في الأسهم التي تخصهم قبل مرور سنتين أو ثلاث على قيام الشركة ستعتبر جناية يتم بموجبها ملاحقتهم قانونياً وقضائياً، هكذا نقضي على الطفيليين وعلى كل من هبَّ ودبَّ من الذين تقدموا لإنشاء الشركات المقفلة، وهم أبعد الناس عن الاختصاص، ولم يكن هدفهم إلا إنشاء تلك الشركات ثم بيع أسهم التأسيس فيها، ومن ثم إغراق السوق بالأسهم وليكن بعد ذلك ما يكون! تماماً مثل ما وقع في بعض الشركات الخليجية وكان موضع انتقاد كبير من الحكومة.. أما الذي حدث فهو العكس تماماً؛ إذ إن الوزارة فرضت في آخر الأمر نظاماً هو غاية في الغرابة! حيث فرضت على المؤسسين حداً أدنى من الملكية لا يتجاوز نسبة ضئيلة من رأس المال وصلت بعد تدخلات كثيرة إلى 5% من رأس المال، وطلبت من المؤسسين توزيع الباقي على أكبر قطاع من الناس؛ ففقدت الشركات راعيها، مع الإيحاء للناس بإمكانية تداول هذه الأسهم بالبيع والشراء قبل أن يجف الحبر على أوراق تأسيس الشركة، وذلك بقصد تنفيع أكبر عدد ممكن من الناس باعتبارها طريقة جديدة لإعادة توزيع الدخل، وأدى ذلك إلى نسيان الهدف الأساسي من إنشاء الشركات نفسها، وحتى الآن لم يمضِ على أي منها سنة واحدة، ولكن أسهُم بعضها تضاعفت عدة مرات، وبذلك شجعت الوزارة الناس على القيام بما كانت تحذرهم منه بالنسبة للشركات الخليجية، وهو أمر غير قانوني أصلاً ولا يُعتد به.

أما تأجيل إنشاء الشركات المقفلة فقد قررته السوق قبل أن تصدر الوزارة قرارها، وقد حكمت السوق على المحترفين الذين تخصصوا في إنشاء الشركات، وآخرها شركة لبيع “البرجوتن” فرضت ولفظت معظم الشركات التي طرحت منذ شهر يوليو الماضي، وهذا هو الوضع الطبيعي، دع المجال مفتوحاً للجميع، ومع وضع الإطار والقالب القانوني والضوابط الأساسية، واترك الباقي للسوق تحكم عليه وتقرر في شأنه.

وفيما يخص النيابة العامة، فإن أوضاع البلاد تتطلب الآن وجود مختصين فيها يستطيعون ملاحقة القضايا المالية إلى جذورها، ويحكمون على مختلف أنواع التعامل، ويحققون في إساءة التصرف، الكل يعرف أن التحقيق لا يزال مستمراً في شراء بعض الكويتيين لأسهم في شركة “سانتافي” قبل قيام الحكومة الكويتية بشرائها، ولا تزال لجنة الأوراق المالية في نيويورك تلاحق الموضوع إلى أن تتأكد أن المشتري لم يكن في حوزته معلومات مسبقة أدت إلى الشراء، هل نتخيل كم من الأشخاص ستستقبله السجون في الكويت إذا أمكن تطبيق هذا المبدأ هنا؟ وأعني الأشخاص الذين يستغلون معرفتهم المسبقة بما تقرره مجالس إدارات الشركات التي يشاركون في عضويتها؛ فيقومون بالبيع أو الشراء معتمدين على المعلومات المسبقة التي في حوزتهم، وبذلك يكسبون على حساب الأمانة رغم أن أنظمة الشركات نفسها تحظر عليهم ذلك!

هذا جزء من فيض، والموضوع يجب أن يدرس باستمرار أو أن يسود فيه الرأي العلمي الصحيح، كفانا ادعاءات فارغة من الجهلاء بأن الكويت تختلف عن غيرها، وأن أهل الخبرة المحلية فقط هم القادرون على إدارة شؤونها، لقد أثبتت الأزمة القاسية الأخيرة أن البشر هم البشر مهما كانت جنسياتهم أو لباسهم، وعلينا أن نقتدي ونهتدي بما حصل في الأسواق المتقدمة ونفرض على السوق هنا نفس الضوابط والأحكام التي تسود السوق في نيويورك ولندن وزيوريخ وفرانكفورت وسنغافورة وهونغ كونغ وطوكيو وغيرها من مراكز التداول المالي، فالتقاليد المحلية انهارت أمام الأزمة الأخيرة؛ لأنها تقاليد غير صالحة لهذا الزمان والمكان، الذي يتطلب تصدي المختصين وإبعاد الهواة ومدعي الخبرة.

زوال الخوف

منذ كتابة المقال الأول حول السوق تطورت الأمور إيجابياً، ولكنه من النوع الذي يدور بين الكواليس ويحتمل مختلف التكهنات والتفسيرات، وفي رأي الكاتب أن هذا خطأ كبير، فالإعلام المضبوط هو أهم سلاح يمكن استخدامه الآن لطرد عوامل الخوف والهلع التي سيطرت على البلاد خلاف الفترة السابقة، وكان سببها الرئيس – في رأي الكاتب – التفوهات والتصريحات وفقدان الأعصاب الذي ساد السوق، وما تبع ذلك من القصص التي تعطي الاضطراب، والمعروف أن معدن الرجال، تكشفه الأهوال، وقد كشفت أزمة السوق أنواعاً من الرجال ذوي الأعصاب الحديدية، وأنواعاً أخرى من ذوي الأعصاب الهشة، كما كشفت الأزمة عن شخصيات غريبة لعبت بالسوق بنفس الأسلوب الذي لعب به طيب الذكر جوزيف كندي عام 1929م، حين قلب السوق رأساً على عقب، وانسحب منها قبل انهيارها، كما كشفت الأزمة عن أخلاقيات غريبة على المجتمع، ولكنها تمثلت في استغلال بعض كبار المضاربين لقوتهم، وحصولهم على ديونهم قبل غيرهم، وليكن بعد ذلك ما يكون، ضاربين مثلاً صارخاً على الجشع، وعلى الهروب من السفينة الغارقة، ولكن السفينة لم تغرق ولن تغرق، ومهما كانت قساوة الدرس فقد كشف للناس عن أنواع جديدة من الأخلاقيات؛ مثلاً شخص معروف أن وضعه سائل وحلَّ وقت دفع الشيك الموقَّع بإمضائه، ولكنه يرفض قائلاً: “إنني لا أدفع لصاحب الشيك إلا إذا دفع لي أخوه أو ابن عمه أو أحد أفراد قبيلته.. أو.. أو..”، وحينما تضغط عليه يبدأ في المساومة وتخفيض قيمة الشيك، وهذا النوع من الأشخاص يجب أن تعرفهم السوق حق المعرفة، وتكنسهم من ردهاتها بعد انجلاء الغبار، فالذي اهتز خلال الفترة السابقة هو أغلى بضاعة تملكها السوق؛ وهي الثقة بين الناس وبين المتداولين، وحلت محلها أخلاقيات جديدة وغربية عن هذا المجتمع، ولكنها سنة الحياة التي تتطور، وليس التطور بالضرورة متجهاً إلى الأحسن.

وعلى كلٍّ، فرب ضارة نافعة، والعبرة ستكون في استيعاب الدرس وفهمه والتصرف بعد ذلك على أساس الخبرة والتجربة المريرة.

أما إجراءات الحكومة والقطاع الخاص، فإنها تمثل – بلا شك – قمة التفهم والمسؤولية، وهي تذكّر المرء بالأب الذي يواجه تصرفات ابنه غير المسؤولة، فلا يجد سبيلاً إلا أن يهبَّ إلى نجدته، فهو ابنه قبل كل شيء، ولكن المهم أن يعي الابن هذا الدرس.

وهذه الإجراءات تزيد عما ذكرناه بالأمس القريب، وتدل على ارتفاع المؤسسات الخاصة والعامة إلى مستوى المسؤولية ومستوى التحدي الكبير الذي واجه البلاد خلال الفترة الماضية؛ ولهذا فإن مفعولها سيكون – بلا شك – فورياً.

والسبب هو أن إزالة مشاعر الخوف والهلع من الناس يعيدهم فجأة إلى صوابهم، وإلى التفكير المتزن الهادئ، وينعكس هذا على تصرفاتهم، كما أن الخوف يولِّد شعوراً متزايداً يشبه كرة الثلج المتدحرجة التي تكبر كلما قربت من سفح الجبل، فإن زوال الخوف يولِّد نفس الشعور المتفائل، وبالطبع فإن وقتاً لا بد أن ينقضي قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها، ولا بد من إحصاء الجرحى والضحايا الذين عصفت بهم العاصفة.

العوامل المؤثرة في تزايد السكان

توجد عوامل طبيعية وعادية تتحكم عادة في تطور أعداد السكان بالزيادة أو النقصان.

ولكن طرأ في العصر الحديث عوامل جديدة وطريفة تتحكم في هذه القاعدة، فمثلاً لوحظ منذ سنوات طويلة في الأربعينيات – على ما أعتقد – أن معدل الزيادة في سكان عبدان يزيد عن المعدل العام لإيران كلها، واحتار المحللون الإحصائيون في ذلك! إلى أن اكتشفوا السبب – وما أطرفه من سبب! – فقد اتضح أن ناقلات النفط تطلق أبواقها حوالي الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل؛ فيستيقظ الناس من النوم، وإلى أن يعودوا إلى النوم، فإنهم يقومون بممارسة واجباتهم الطبيعية؛ وبالتالي يزداد عدد السكان!

وقد حصل منذ عدة سنوات أن انقطعت الكهرباء في مدينة نيويورك ولشدة ولع الأمريكيين بالإحصائيات رصدوا تطور المواليد بعد تسعة أشهر من انقطاع الكهرباء؛ فوجدوا انفجاراً في العدد، إذ إن الإنسان يعود في مثل هذه الظروف إلى أساسه الأصلي وطبيعته البدائية، وحين يشعر بالخوف يلجأ تلقائياً إلى المحافظة على النسل قبل أي شيء آخر!

أما في الكويت، فإن الكاتب مستعد أن يراهن أن شهري مايو ويونيو القادمين سيشهدان انخفاضاً كبيراً في عدد المواليد بالنسبة للسكان الكويتيين، وذلك بالنسبة للسكان غير الكويتيين من الذين أدلوا بدلوهم في سوق المناخ؛ فأدى ذلك إلى إناخة همتهم وقدرتهم الجسمانية الطبيعية، فالذي تمعَّن في أوجه الناس وملامحهم وتصرفاتهم تيقَّن تمام اليقين أن ممارسة واجباتهم الطبيعية هي آخر شيء يفكرون فيه، وأن كل أجهزة الكمبيوتر المركبة في الدماغ مصوبة نحو الملايين التي تلاشت والآلاف التي اختفت؛ وبالتالي لا يوجد بينها جهاز يوجه عنايته إلى الاحتياجات البدائية العادية للمحافظة على النسل والأصل، وأن القعود حلَّ محل القيام؛ فلم تقم للناس قائمة أو قائم.. اللهم قنا شر الهموم، واجعلنا طبيعيين في حياتنا يا أرحم الراحمين.

Comments are closed.