قال أحدهم: أنت لا يعجبك العجب ولا الصيام برجب.. فانتقادك يشمل كل شيء، وهذا غير صحيح.
قلت: الإنسان ينشد الكمال، وكونه ينشد الكمال لا يعني وصوله إليه، ولكنه يعني عدم التوقف عن المحاولة والاستمرار في التهديف نحو الأحسن، والمثل يقول: عليَّ أن أحاول وليس عليَّ إدراك النجاح.
قال: ولكنك لن تستطيع تغيير طبيعة الناس.
قلت: ومن قال لك: إن هذا هو الهدف؟ ربما كان هذه هو الحلم، ولكن الأحلام تبقى أحلاماً والواقع غير ذلك، وأول الغيث قطر – كما تقول الأمثال – ثم ينهمر.
قال: ولكن استمرارك في النقد يضفي عليك صفة الرافض والمتململ.
قلت: كلا ثم كلا.. فالرافض يسعى إلى تقويض البنيان صراحة أو مواراة، أما الناقد البنَّاء فهو ينتقد لحرصه على تدعيم البنيان، ولأنه قد يرى أخطاراً تهدد الكيان، ولكن الظروف والمعادلات السياسية تمنع الساسة من التنبيه عنها، وهنا يأتي دور الناقد البنَّاء في أن يطرح صراحة ما يدور بخلد الناس خفية، ولعل هذه أهم ميزات الحرية والديمقراطية أدامها الله علينا.
قال: ولكنك تسلك في بعض الأحيان مسلك الذي ينشر الغسيل.. إذ يجب أن تعرف أنه ليس كل ما يُعرف يُقال.
قلت: ربما كان هذا هو مسلك الساسة الذين تحدهم مسؤوليات العمل ومتطلبات السياسة، ولكن مسؤولية الكاتب هي أن يقول ما يعرف ضمن حدود المسؤولية العامة للمواطن، وهو الذي يقرر حسب تقديره للأمور، ما إذا كان من المصلحة نشر موضوع ما على رؤوس الأشهاد أو عدم نشره.. خذ مثلاً موضوع الجنسية؛ هل يجوز إخفاء الحقائق الأساسية المتعلقة به؟ العصر الحديث أتاح للناس معرفة الحقائق الأساسية، وإخفاء الحقائق في موضوع الجنسية هو مثل بعض الدول التي تمنع استعمال الكاميرا لتصوير مباني الركاب في المطارات أو لتصوير سياج يحيط بمعسكر جيش، ونسي هؤلاء أن الأقمار الصناعية فوق رؤوسهم تعرف حتى عن حركة الأفراد داخل المطارات والمعسكرات!
قال: ولكن هذا يعتبر تدخلاً منك في السياسة.
قلت: أرجوك أن تعرف وتحدد ما تقصده بالسياسة.
قال: السياسة هي شؤون الحكم، وفي الكويت حدد الدستور المسؤولية السياسية بالحكومة وبمجلس الأمة.
قلت: هذا صحيح، ولكن ما هي شؤون الحكم إذا لم تكن هي رعاية شؤون الناس؟ وما معنى رعاية شؤون الناس إذا لم يكن هذا مرتبطاً بأعدادهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم وطريقة سكنهم وتعليمهم وتطبيبهم ومستوى معيشتهم ودخلهم وواجباتهم الوطنية، وحماية كل ذلك من الأخطار الداخلية والخارجية.. إلخ، السياسة – يا سيدي – هي شؤون الحياة اليومية للناس؛ ولهذا فإن الحديث فيها حق مقدس للناس، ولا يجوز لأحد منعهم من الحديث في شؤونهم والتعليق عليها وعلى طريقة إدارتها من قبل الحكم في البلاد التي تعتبر الحرية والديمقراطية أساس الحكم فيها.
قال: ولكن هذا يخرج بنا عن التخصص ويوجِد فوضى ضاربة أطنابها إذا اعتبر كل مواطن أن من حقه أن يعلق على كل شيء.
قلت: كلا.. فليس صحيحاً أن كل مواطن سيعتبر أن من حقه التعليق على كل شيء على الأقل؛ لأن التعليق على كل شيء يتطلب معرفة كل شيء، والعلم بكل شيء، وهذا غير متوافر إلا للخاصة، وإلا لذوي الخبرة والمعرفة؛ ولهذا فإن على هؤلاء أن يتصدوا للتعليق ولا يختبئوا خلف جدران الصمت أو في حماية محيطهم الصغير المكون من أصحابهم وأقاربهم.. هؤلاء عليهم أن يتصدوا لمعالجة المشكلات العامة وطرحها على بساط البحث، خاصة وأن القنوات الإعلامية موجودة ومفتوحة أبوابها عن طريق الصحافة الكويتية الحرة، التي تحتوي في صفحاتها على مختلف الآراء والاتجاهات، بل إن واجبهم أن يساهموا بترسيخ الديمقراطية عن طريق ممارستها واختبار أسسها وقواعدها.
قال: ولكن جيلك يمارس المسؤولية والقيادة من مواقع السلطة؛ ولهذا فهو يعمل ويصنع ويقرر ولا يكتفي بالتعليق، وتأثيره إيجابي، بينما تأثيرك سلبي.
قلت: لقد جانبك الصواب، فالكتابة والتعليق ضروري كي ينتبه صاحب الكرسي الذي قد يكون فاته أمر ما أو اتجاه معين.
وسبحان من لا يخطئ، فإذا عرف أن هناك في الصحافة عيوناً مفتوحة، قادرة على فهم ما يقوم به من أعمال، وتشخيصها والتعليق عليها سلباً أو إيجابا؛ فإن هذه من العوامل التي قد تجنبه الخطأ، ولعل هذه هي أقدس مهمة تمارسها الصحافة.. ومعنى ذلك أن المعلق على الأحداث الجارية يمارس المسؤولية كذلك ولكن من موقع آخر، غير أنه موقع لا يقل أهمية عن موقع الكرسي.. وعلى كلٍّ، فلا يمكن أن يكون الجميع قادة، فهناك جنود، وآخرون مستشارون، وإن كانت هذه الأخيرة تذكرني بما كتبه يوماً ما الأستاذ أحمد السيد عمر حول المستشار (وأرجو أن يعود الأستاذ أحمد السيد عمر إلى كتاباته الأنيقة الممتعة).
قال: ولكنك تخلق لنفسك دوراً أنت تحدد طبيعته، فتكون في الوقت نفسه خصماً وحكماً.
قلت: هكذا هي المجتمعات الحرة، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”، فالحر يختار لنفسه الدور الذي يعتقد أنه يصلح لممارسته، وإذا كان هذا الدور هو دور الكاتب، فإن الحكم في نهاية الأمر هو للقارئ الذي يقرر بحرية تامة، ما إذا كان سيقرأ لفلان أو علان من الكتَّاب أو لا يقرأ.
قال: هل تعتقد أن هذه هي توجهات كل المتقاعدين؟
قلت: إن التقاعد هو نظرة حياتية، والذي يتقاعد بمعنى انتهاء أي دور مفيد له يكون قد حكم على نفسه بالفناء.
والمتقاعد الحقيقي هو المتقاعد عن الحياة، وإذا كانت سُنة الحياة هي أن يفسح البعض المجال لآخرين أكثر شباباً في العمل، فليس معنى ذلك أن ينزووا إلى سلة النسيان إلا إذا اختاروا هم وبأيديهم أن يذهبوا إلى هناك، ويعيشوا على الهامش، وليس من صفات صاحبك أن يعيش على الهامش.