الانطباع الذي يتركه قرار مجلس الوزراء بإنشاء صندوق خاص لـ”صغار المستثمرين” هو أنه قرار سياسي ذكي؛ إذ استطاع – أو هكذا يبدو – بخطوة واحدة أن يسحب البساط من تحت أقدام المتباكين على “صغار المستثمرين” الذين تم تضليلهم، فدخلوا سوق الأسهم دون احتساب لمخاطرة! وأضافوا إلى المصطلحات تعريفاً جديداً لذوي الدخل المحدود!
ومع ذلك، فهو لم يسهل الأمر لـ”صغار المستثمرين” هؤلاء، وإنما أجبرهم على الانتظار، وخاصة كلما كبر حجمهم ضمن دائرة الصغار، وذلك عن طريق مد فترة السداد لقيمة السندات إلى خمس سنوات وبدون فائدة، وبالنسبة لما اقترحه الكاتب في هذا الشأن؛ فإن قرار مجلس الوزراء يحتوي على جزء من المقترح يخص “صغار المستثمرين”، وسوف تكشف التحليلات التي تقوم بها شركة المقاصة عن عدد هؤلاء وحجمهم؛ وبالتالي مدى تأثيرهم على الأزمة بمجموعها، والقرار مع ذلك قدَّر حجمهم بما لا يزيد على رأسمال الصندوق؛ أي 500 مليون دينار.
إلا أن النقطة الإيجابية الواضحة في قرار مجلس الوزراء هي في تحديد تاريخ تنتهي بموجبه المدد بالنسبة للمفلسين، وهو 20/ 9/ 1982م، وبهذه الخطوة تكون الحكومة قد خفضت من الأرباح الخيالية التي أضيفت إلى أسعار الأسهم المباعة بالأجل عن طريق اختصار مدتها، ولكن دون المساس بالنسب المتفق عليها بين البائعين والمشترين، باعتبار أن العقد شريعة المتعاقدين، ومع ذلك فسيقول قائلون: إن هذه الخطوة أفادت الذين اشتروا بنسب خيالية لمدة سنة أو سنتين أو أكثر، وخاصة في الفترة التي سبقت انهيار السوق مباشرة، وإن التزاماتهم نتيجة لهذا الفارق انخفضت بصورة دراماتيكية، وهذا صحيح، إلا أن الرد عليه هو أن قدرتهم على الوفاء بديونهم تحسنت أيضاً بصورة دراماتيكية، وإن كانوا سيضطرون للوفاء بها حالاً، بينما كان الوضع قبل ذلك أنها مؤجلة لما بعد، وفي تواريخ متفرقة، ولكن الوصول إلى مرحلة الإفلاس يلغي جميع الارتباطات المستقبلية، ويتقدم بموعدها إلى موعد الإفلاس نفسه، ومهما يكون الحل؛ فإنه لا يمكن أن يعدل بين الجميع، ومن مأسي الحالات المشابه للأزمة الكويتية أن الظروف قد تضطر السلطات في بعض الأحيان إلى تعويم المدينين حتى يمكن سداد حقوق الدائنين، وهو ما حصل أثناء الأزمة العقارية التي وقعت في إنجلترا عام 1975م.
والسؤال الأساسي المطروح هو: هل تهدف الدولة إلى تأديب المتعاملين في السوق والبالغ عددهم حسب البيانات الأخيرة حوالي 7000 شخص ومؤسسة بطريقة موجعة؟ أم أن الهدف هو حل الأزمة حلاً معقولاً مع ترك المجال للقضاء كي يمارس دوره الطبيعي في عقاب المفلسين والمتسببين بالأزمة؟ مع ضرورة التذكير بأن القانون لا يفرق ويجب ألا يفرق بين الصغير والكبير، وأنه يوجد كذلك صغار مديونون بالإضافة إلى الصغار الدائنين.
والجواب عن هذا التساؤل غاية في الأهمية؛ إذ إنه سيكشف للناس عن الخطوات المقبلة، كما سيكشف مدى تقبل الحكومة لاقتراحات مكملة لمشروعها أو معدلة له أو منقحة له.
إذا كان الهدف الأول هو المقصود؛ فإن نتيجته ستكون لها أبعاد وعواقب سياسية واجتماعية عميقة الأثر ليس هنا مجال بحثنا، ولكنها يجب ألا تغيب عن أذهان المسؤولين وهم يتخذون قرارهم في ظل الأوضاع التي تسود المنطقة، وسيكون لهذا كذلك أبعاد اقتصادية أعمق تتعلق بسمعة البلاد، حيث يساق المئات من رجال الأعمال – وبغض النظر عن حداثتهم أو عراقتهم في السوق – إلى الحبس بتهمة الإفلاس بالتدليس (وللكاتب نصيحة لكل من يتعامل بالتجارة أن يتمعن في دراسة القوانين الكويتية المختصة بالتجارة والمعاملات التجارية، إذ يكفي عدم الاحتفاظ بحسابات سنوية مدققة لإطلاق وإثبات تهمة التدليس)، وليس في هذا دعاية لمكاتب المحاسبة أو المحاماة، ولكنه واضح.
الآن؛ هذه المكاتب مقبلة على عصر ذهني، والناس يهرعون إلى تصحيح أوضاعهم أمام القانون.
وقد يتم هذا والحوار لا يزال دائراً حول مدى مسؤولية الحكومة ضمن السياسات التي اتبعتها خلال عامي 1981 و1982م التي يرى البعض أنها هي التي أدت إلى حصول ما حصل في السوق.
وفي رأي الكاتب أن القرار الصادر من مجلس الوزراء قد يقود في النهاية إلى هذه النتيجة إذا انحصرت أهدافه في مجموعة صغار المستثمرين، فمثلاً الشخص الدائن بخمسة ملايين ومدين بمليونين قد يجد نفسه مفلساً إذا لم ينجح في الحصول على مبلغ من مدينه يكفي لسداد حقوق دائنه وفي الوقت المناسب، ورغم أنه دائن بالصافي فإنه يمكن أن يصبح مديناً في مثل هذه الظروف.
وهذا كما أسلفنا يعتمد على النية المبيَّتة للحكومة.
والكاتب يفترض أن الهدف الثاني هو المقصود؛ أي حل الأزمة مع ترك العدالة تأخذ مجراها عن طريق القضاء، وتكفي العقوبة التي ستصيب صغار الدائنين أنفسهم عن طريق تأجيل الدفعات التي ستقدمها لهم الدولة إلى خمس سنوات، والتي ستصيب الآخرين بسبب الانتظار أوقاتاً أطول من ذلك إلى أن يتم تصفية المعاملات.
فإذا كان هذا الهدف هو المقصود؛ فإن الكاتب يعتقد أن قرار مجلس الوزراء يجب أن يتبعه قرارات إضافية لاحقة حسب ما وعد به وزير المالية والتخطيط في ندوته التلفزيونية 26 أكتوبر 1982م.
ولهذا فيمكن القول بما يلي:
إن الصندوق الخاص الذي أوجدته الحكومة إنما أنشئ لعلاج قضية تخص صغار المستثمرين، ومهما كان عيوب هذا الحل فهو أفضل الموجود، ويعالج قضية قطاع كبير من الناس من حيث العدد وإن كان صغيراً من حيث التأثير على الاقتصاد الوطني ككل، وقد ضمن الصندوق كافة حقوق صغار المستثمرين، ولهذا جاء الحل بمزيج من السياسة والاقتصاد مع رجحان كفة السياسة.
إلا أن مشكلة باقي المستثمرين ستبقى وتزداد خطورة مع مرور الوقت، وقد تمتد آثارها لتمس من لم يكن لهم ناقة ولا جمل في القضية، وهنا يجب أن يتدخل الاقتصاد كي ترجح كفة في مقابل السياسة، وذلك في سبيل المصلحة العليا للبلاد.
ولهذا؛ فإن الحل الواقعي الذي لا مهرب منه، الذي اضطرت البلاد الأخرى التي تعرضت لهزات مماثلة في النوع، وإن كانت غير مماثلة في الحجم، لاتباعه هو في تقديم التسهيلات الائتمانية والقروض بفائدة معقولة مقابل رهن الموجودات للمتعاملين، وبالذات للمدينين؛ مما يمكنهم من الوفاء بديونهم، وبالتالي يتكرر مفعول كرة الثلج، ولكن بعكس اتجاهها المنحدر؛ أي أنها تصغر كلما عادت إلى نقطة انطلاقها، ومعنى ذلك تمكين الدائنين الآخرين من الحصول على أموال من مدينيهم للدفع لدائنيهم، وهلم جرا.. وسيحفظ رهن الموجودات بهذه الطريقة قيمتها الحقيقية التي تعرضت للاهتزاز والانخفاض بسبب ما ساد السوق من فزع وهلع، إذ تقييمُها سعر وسط بين ما كانت عليه وما آلت إليه.
والكاتب يعرف أن تعويم المدينين ليس أمراً شعبياً، وسيثار حوله الكثير من الاعتراضات المتشنجة، ولكن هذا هو الطريق الوحيد المفتوح أمام البلاد، حتى لا يجر المديونون الاقتصاد الوطني معهم بأسلوب “عليَّ وعلى أعدائي يا رب”، وهذا الحل يتطلب كذلك شجاعة سياسة كبيرة لتبنيه.
وليس تعويم المدينين يعني منحهم أموالاً، ولكنه يعني تقديم تسهيلات مالية لهم بفائدة معقولة ولمدد معقولة مقابل رهن الموجودات، تساعدهم على التعويم والحصول على السيولة.
ويمكن لهذا الغرض تكليف شركة المقاصة بذلك، أو إنشاء مؤسسة خاصة للتمويل تتولى استلام الرهونات وإدارتها لحساب المرتهنين أو حتى تكليفهم بإدارتها تحت إشرافها باعتبارهم أقدر على إدارة أعمالهم بأنفسهم بدلاً من إيكالها إلى موظفين، وحتى لا يبدأ عندنا نظام الحراسة بعد أن تخلت مصر عنه، وذلك إلى أن يتم ترتيب أوضاع السوق وتعود إلى وضعها الطبيعي كما يؤمل ويتوقع لها، وتعود أسعار الموجودات من عقار وأسهم إلى مستوى معقول يغطي قيمة الرهن.
تبقى نقطة مهمة اختلف في تفسيرها الكثيرون؛ وهي ما جاء في المادة الثالثة من قرار مجلس الوزراء الذي حدد تاريخاً تنتهي فيه مدد الشيكات الآجلة وهو 20/ 9/ 1982م، وقد فهمه البعض في غير معناه؛ ذلك أن معناه هو اقتصاره على المفلسين فقط، أما الآخرون فلم يدخلوا في الحسبان.
وربما رأت الدولة أن من الحكمة تطبيق هذا المبدأ على جميع الشيكات، وهو ما ذهبتْ إلى تفسيره معظم الصحف، واتضح الآن أن ذلك التفسير كان غير صحيح.
وميزة هذه الخطوة أنها ستخفض وبصورة دراماتيكية من حجم المديونية العامة، ولكن دون المساس بقدسية العقد الذي هو شريعة المتعاقدين، وبمعنى آخر يعود للشيك وضعه المقدس الذي كاد أن يفقده، وتعود للبلاد مكانتها والثقة التي كانت تتمتع بها قبل هذه الأزمة، بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هذا سيؤدي إلى انخفاض الأرقام الفلكية للشيكات الآجلة انخفاضاً ملحوظاً يعيد الأمور إلى نصابها المعقول، ويتيح للحلول أن تكون في حدود الممكن.
يتبقى عنصر مهم وأساسي طالما ردده الكاتب في علاجه لهذا الموضوع؛ وهو ضرورة تعاون الحكومة والقطاع الخاص في الخروج من هذه الأزمة، وبالنسبة للحكومة فالواضح أنها اتخذت حتى الآن خطوات احترازية، مؤكدة إزالة الشك والخوف من وعلى مؤسسات البلاد المالية، كما أن تدخلها في شراء الأسهم الكويتية أوقف تدهور قيمة تلك الأسهم بسبب الأزمة، وفي الوقت نفسه أكسب الحكومة مكسباً كبيراً؛ إذ إن هذه الأسعار ليست هي الأسعار الواقعية في الأوضاع الطبيعية، ويبقى الآن أدوار القطاع الخاص وبالذات أقطاب السوق وكبار المتعاملين فيها، فهذه الأزمة يجب أن تكون قد لقَّنتهم درساً قاسياً لا ينسونه، وأوضحت لهم أنهم متشابكون مع بعضهم وليس لأحد وضع مميز عن غيره، وعليهم أن يصفوا فيما بينهم الكثير من الالتزامات المترتبة عليهم تجاه بعضهم بعضاً، وخاصة إذا أخذت الدولة باقتراح تطبيق تاريخ انتهاء الشيكات الآجلة في 20/ 9/ 1982م بالنسبة للجميع وليس فقط بالنسبة للمفلسين؛ مما سيزيل من مديونيتهم نسبة كبيرة، ويقوي من إمكانياتهم على سداد حقوق الغير، والمطلوب منهم أن يضربوا مثلاً ويرتفعوا إلى مستوى المسؤولية، وذلك بعدم المماطلة والتأخير في مواجهة حقوق الغير، كما أنهم الآن محط الأنظار وفي قاعة الامتحان والمطلوب منهم أن يجاوبوا عن السؤال التالي:
هل هم فعلاً طارئون ومدلسون؛ وبالتالي فإن تنظيف السوق منهم يخدم البلاد؟ أم إنهم تجار لا يعيبهم كونهم جدداً لكنهم وعوا الدرس، وسيثبتون جدارتهم وأهليتهم ويحتفظون بمكانهم الجديد المميز؟