October 15, 1983

أثناء البحث في أوراق المرحوم أحمد علي الدعيج، تم العثور على هذه المقالة التي ضمنها رأيه في كيفية إدارة أزمة سوق الأوراق المالية، ونرجو أن تساهم آراء المرحوم في إيضاح الرؤية للوصول إلى الحل.

إن إدارة أزمة السوق قد كشفت نواحي كثيرة في كيفية تجاوبنا مع الأزمات والتصرف بشأنها، فالاختبار الحقيقي لقدرة الدول على البقاء هو في تصرفها وقت الشدائد وليس في سير الأمور فيها وقت الرخاء.

ولقد كنا نردد منذ وقت طويل أن تدفق الثروة إلى البلاد النفطية العربية – ومنها الكويت بالطبع – بشكل فجائي أدى إلى إخفاء الكثير من العيوب والنواقص، التي لولا الثروة لظهرت واضحة للعيان، ولكان قد توافر حافز قوي لمعالجتها والوصول إلى حل لها.

ولكن المال غطى العيوب..

والعيوب في دولة حديثة هي التي تبرز بحكم طبيعة الحياة الحديثة، التي تتطلب من الإنسان الحديث أن يتصرف بطريقة غير الطريقة التي درج عليها الآباء والأسلاف، فأولئك لم تكن تواجههم في حياتهم مثل هذه التحديات اليومية التي تفرضها الحياة الحديثة على المرء، ولم يكونوا يتعرضون في أيامهم إلى مثل هذه الضغوط النفسية، والأعصاب المتوترة التي تشكل قاسماً مشتركاً بين بني البشر هذه الأيام.

والمقارنة بين العرب و”إسرائيل” تعطي نموذجاً للمقصود.

فسرعة الحركة وسرعة اتخاذ القرار وسرعة التجاوب مع الأحداث، ثم الحسم في اختيار الطريق والوسائل، ثم التنظيم في تعبئة مختلف الإمكانات والأسلحة لمواجهة الأحداث، ثم الاشتراك ضمن إطار عام في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية، وكأن كل فرد يعتبر نفسه المسؤول الأوحد.

كل هذه تعكس مدى الهوة التي تفصلنا عن العصر الحديث، نعم.. نحن نبلى بلاء حسناً كأفراد، ولكن القصور يطغى على تصرفاتنا كمؤسسات وكدول، وقد كان ممكناً ألا يؤثر هذا كثيراً على حياتنا العادية، ولكن أهميتنا من حيث الموقع ومن حيث الموارد والثروات الموجودة في بلادنا، يجعلنا محط الأنظار دائماً، ويفرض علينا أن ننسب تصرفاتنا ونقيسها بنفس المنسوب ونفس المقياس الذي ينطبق على أعدائنا؛ ولهذا نجد أننا نفشل في الاختبار، ونجد أن نجاحنا يكون محدوداً بحالات فردية وغير متكررة.. وفي الكويت، عكست معالجة أزمة السوق هذا القصور الخطير في معالجة الأزمات الكبرى، فهذه في الواقع أول أزمة حقيقية تواجه البلاد، فكيف تصرَّفنا حيالها؟

  • أولاً: تخبطنا في تشخيصها، وبذلك فقدنا وقتاً ثميناً كان بالإمكان استعماله لمواجهتها في مهدها.
  • ثانياً: خلطنا في علاج الأزمة بين مشاعرنا الشخصية ومصلحة البلاد، فأدى هذا إلى إيجاد جرح اجتماعي عميق سيطول الوقت حتى يبرأ.
  • ثالثاً: لم يكن الهدف في معالجة الأزمة واضحاً، وربما كان السبب في ذلك هو الإبهام الذي خيَّم على التشخيص المبدئي.
  • رابعاً: في إدارة الأزمة تعددت الجهات، وسيطر جو من الإشاعات والهمسات التي شبعت الجو بالتوتر.
  • خامساً: تميزت التشريعات التي صدرت، والاقتراحات التي قدمت، بالطابع التجريبي.. وكلما ثبت قصور تجربة ما؛ دخلنا في تجربة أخرى، وفي الوقت نفسه دعت الحكومة غرفة التجارة والصناعة للمساهمة في الحل، فلما تقدمت بما ارتأته، بادرت الحكومة إلى إجهاض الحل؛ مما يدل على عدم توحد الأفكار والاتجاهات في الحكومة نفسها.
  • سادساً: استُبعدت من إدارة الأزمة أي عناصر يمكن أن تساهم بخبرتها في بلورة الرأي السديد، وانحصرت الآراء في اثنين أو ثلاثة من الوزراء، جعلوا من أنفسهم رمزاً للأزمة.
  • سابعاً: عادت الحكومة فطلبت من غرفة التجارة والصناعة الدخول مرة أخرى في المعمعة، مصحوبة هذه المرة بغطاء الجهات العليا في البلاد.

هذه المراحل أو الخطوات تعكس ما قصدناه من أن موقفنا تجاه أول أزمة حقيقية تواجه البلاد كان موقفاً عاجزاً عن اجتياز الاختبار والامتحان، موقفاً اختفت منه عناصر احتواء الأزمة، واختلطت فيه النوايا، ولم تكن الأهداف واضحة، وكان الإطار غير شامل، وغلبت عليه صفة الارتباك والإرباك، وغابت عنه عناصر القيادة الحازمة المستوعبة لأبعاد الأزمة.

والأسوأ من هذا كله أننا وجدنا أنفسنا نقف عاجزين أمام النصوص القانونية التي اخترنا أن نفسرها تفسيراً حرفياً ومحدوداً، فبدلاً من أن يكون القانون أداة تنظيم وتسهيل للناس؛ نجد أننا اخترنا له أن يكون أداة تعقيد، وأننا حشرنا أنفسنا في زاوية ضيقة ثم بدأنا نتململ سعياً وراء الخروج منها.

وهذا يعكس ضعف الثقة، واللجوء إلى النصوص الحرفية كي تشكل درعاً حامية تخفي تلك الحقيقة، حتى إذا ما سُئلنا: لماذا كان هذا وهذا؟ فإن الجواب هو أن القانون يفرض علينا هذا المسلك، ونسي أصحاب هذا الجواب أن الأزمات تحدث عادة حين يبطل استعمال القانون العادي؛ ولذا فإن علاج الأزمات يخرج عادة عن نطاق القانون العادي، ويتطلب تصرفات استثنائية.

المطلوب الآن مراجعة هذه التجربة الغنية، فلا يزال أمامنا متسع من الوقت لتقليب الأمور واستخلاص النتائج والعبر، وهذه الأزمة أثَّرت على جيوبنا وأموالنا، وكشفت لنا عن علاقات وعادات كنا نحاول عدم إظهارها، ولكنها لم تمس كياننا الوطني، وربما أرادها المولى عز وجل كتجربة تدق أجراس الإنذار، وتقول لنا ألا نترك الأمور على ما هي عليه، وأن نحسب حساباً لما هو آتٍ، فنحن نعيش في منطقة مضطربة منذ أقدم الأزمان، وربما أفقنا فوجدنا أنفسنا في خضم أزمة أعتى من هذه الأزمة، وأكثر تهديداً لكياننا السياسي هذه المرة، وليس الاقتصادي فقط.. وإذا كان تصرفنا تجاه الأزمة الاقتصادية قد كشف لنا قصوراً كبيراً في قدرتنا على التحكم في الأزمات وإدارتها، فإن هذا يشكل تهديداً خطيراً في بنياننا الداخلي، وعلينا أن نبدأ التفكير الجدي في كيفية مواجهته، فالبلاد الآن لا يمكن أن تُدار كما كانت تُدار في الماضي، فهذه دولة حديثة معقدة التركيب تحتاج في إدارتها إلى كل وسائل وفنون الإدارة الحديثة المصحوبة بالفكر والتجديد.

وأول خطوة في هذا المجال هي إيجاد منبر دائم للتفكير، ومطبخ للآراء، ومحطة استماع لما يَجِدُّ في هذه الحياة، وفي هذا المنبر يجري تشريح الأوضاع وتبادل الأفكار واقتراح الحلول، وهذا هو الأسلوب الديمقراطي الذي ينبثق من مبادئ الدستور.

وهذا المنبر الدائم المطلوب منه أن يفكر وأن ينقِّب وأن يفحص وأن ينتقد وأن يحلل وأن يشرح وأن يقترح وأن يطرح المقبول وغير المقبول من الآراء حتى يكون أولو الأمر على بيِّنة من أمرهم.. هذا المنبر يجب الإسراع في إنشائه، فلقد كشفت الأزمة الأخيرة أن أهم ما كان غائباً عن الميدان هو الترشيح الحقيقي للأزمة نفسها، وهو الأمر الذي لا يتأتى إلا حين يلتقي المسؤولون بأندادهم ونظرائهم لا بموظفيهم ومريديهم فقط، ويجلسون معهم على قدم المساواة، وتتم المساءلة المختصة القادرة على مقارعة الحجة بالحجة، ودعم المنطق بالمنطق، هذا المنبر هو مجلس التخطيط الذي غاب وينطبق عليه قول الشاعر:

وفي اللية الظلماء يُفتقد البدر.

Comments are closed.