May 13, 1982

الذي يسمع عن ترشيد الإنفاق الحكومي يفترض أن الإنفاق الحكومي لم يكن رشيداً قبل ذلك، وهذا رأي قد يقبل الجدال والمناقشة، ولكن الارتفاع الهائل في تكلفة المشروعات، وغياب الجهة المراقِبة التي تسأل وتطلب تبريرات وإيضاحات، أدى إلى ارتفاع تكلفة بعض المشروعات الكبيرة حوالي 7 مرات خلال أقل من عشر سنوات، ومثال ذلك مباني الوزارات التي كان تقدير تكلفتها 7 ملايين دينار عام 1973م، وتمت ترسيتها بـ49 مليون دينار عام 1978م، والقاعدة البحرية التي قدرت تكاليفها عام 1974م بـ15 مليون دينار وتمت ترسيتها وبناؤها بأكثر من 100 مليون دينار عام 1977م، ومستشفى مبارك الكبير الذي كانت تكلفته 22 مليون دينار لألف سرير فألغيت المناقصة وتم بناء مستشفى مبارك الجديد بأكثر من 30 مليون دينار لخمسمائة سرير فقط، وأما تكلفة مطار الكويت وتصاعدها المستمر فأمرها معروف للجميع، وكذلك تكلفة مشروع المدينة الرياضية الذي تم تفكيكه إلى مشروعات فردية ثم أعيد تركيبه ولا أدري ماذا تم به الآن.. وغير ذلك من المشروعات المهمة التي تعطل اتخاذ القرار فيها في وقت عرضها، وأدى ذلك إلى ارتفاع تكلفتها ارتفاعاً خيالياً دون أن يحرك أحد ساكناً.

وترشيد الإنفاق الحكومي يمكن أن يأخذ أشكالاً عديدة؛ منها الحد من التبذير الواضح في تكلفة المشروعات، وإيقاف السيل المنهمر في ميزانية الباب الأول التي أصبحت من القدسيات التي لا تناقش، ومنها إعادة النظر في الألوف من العاطلين عن العمل الذين يقبضون آخر الشهر مرتبات من الحكومة، وترشيد الإنفاق الحكومي يتطلب وجود يد حديدية تُخضع الوزارات والهيئات والمصالح الحكومية لخطة الترشيد المطلوبة، وجهاز منسِّق يطبِّق أولويات مدروسة ومتفق عليها.

ومع خطة ترشيد الإنفاق الحكومي، يجب وضع خطة للقضاء على الإهمال وعدم مراعاة مصالح الناس، ومضيعة الوقت التي تواجه كل من يتعامل مع المصالح الحكومية يومياً، وهذه الخطة يجب أن تقلل من الموافقات المسبقة المطلوبة لكثير من الأمور اليومية التي تدخل في تعامل الناس مع بعضهم؛ مثل تسجيل أرض أو تعديل عقد أو إنشاء شركة أو توسعة مصنع، وهي أمور يجب أن تصبح عادية وروتينية ولا تحتاج لرحلات العذاب المطلوبة ما بين بلدية الكويت ووزارة التجارة والصناعة ووزارة العدل، التي هدفها أن يبرر الموظفون وجودهم بتعطيل مصالح الناس، كل هذا من شأنه أن يوفر وقتاً ثميناً يدخل ضمن خطة الترشيد، ويطلق سراح القدرات الفردية كي تتفرغ لأعمال مجدية.

وخطة الترشيد تتطلب كذلك إزالة العقبات التي تواجه من يسعى لإقامة صناعات تضيف إلى قيمة رأس المال بل وتشجيعه بالتسهيلات التي يفترض تقديمها إليه بدلاً من عرقلته؛ بحيث يكل ويمل، أو يتردد على الأقل، أو نشاطات تجارية واستثمارية تخلق دخلاً جديداً يمكن أن يساهم مع الدولة في تحمل نفقات دولة الرفاه المقامة في الكويت.

كما أن كل هذا لا يغني عن البدء في وضع خطة عملية لفرض الضرائب على السكان، ولقد تمت دراسة هذا الرأي عام 1966م في مجلس التخطيط آنذاك، ولم يلقَ حينها تجاوباً من أحد، ولكن لا بأس من العودة إلى نفس الموضوع بعد حوالي 16 سنة، فالمخططون كما أسلفنا في مقال آخر (1) يسبقون زمانهم بهذه الفترة، ويمكن البدء بفرض رسوم معقولة على استهلاك الناس للماء والكهرباء وخدمات الهاتف واستعمال الطرق وتجديد رخص السيارات، وأخذ رسوم البلدية على تنظيف الشوارع وجمع القمامة، كما يمكن دفع الرسوم على عدد هائل من الكماليات غير الضرورية التي تأتي البلاد من كل فج وصوب.. كل هذا يشكل البداية في إيجاد دخول جديدة لخزينة الدولة غير دخل النفط، إذ إن جميع دول العالم تحصل على دخل متواصل من نشاطات الناس المختلفة، وما يتولد عنها من دخول، ولقاء ما تقدمه لهم من خدمات، فلماذا لا نبدأ في الكويت في الإعداد لذلك، خاصة وأن أجراس الإنذار قد بدأت تدق، ويجب أن يشعر كل مواطن أن هذه البلاد التي تسمح له ولغيره أن يكسب الألوف أو الملايين في ظل نظامها واقتصادها تطلب منه في وقت الشدة أن يبرهن على صدق مواطنيته بالبذل والعطاء.

وكل هذا ما هو إلا تمهيد للأصل.. والأصل هو في ضرورة أن يدفع كل مواطن مقيم وكل مقيم عامل في الكويت ضريبة دخل تتناسب مع دخله يقدمها لخزينة الدولة، وحين يشعر المواطنون أنهم يدفعون للدولة فسوف يفكرون عميقاً في اختيار ممثلهم في مجلس الأمة؛ بحيث يختارون من يحرص على المال العام لتنميته، لا من يكرس جهده في إيجاد وسائل تبذير المال العام، وبحيث يأتي اختيارهم لنوابهم متماشياً مع المسؤولية الملقاة عليهم باعتبارهم المراقبين المنتدبين من الشعب لرعاية أموال الشعب.

والضرائب موضوع لا يتمتع بأي شعبية، ولكن الحكومة المسؤولية تضحي بالشعبية إذا رأت أن مصلحة البلاد العليا بل وبقاء استقلالها يتطلبان ذلك، فهذا هو الفرق بين الحكومة المسؤولة والحكومة اللامسؤولة، ويجب أن يقاس مدى نجاح الوزير في الحكومة بقدرته على مواجهته القرارات الصعبة والتصدي لها بعزم وإيمان.

والحكومة الكويتية الحالية تضم نخبة من الشباب المتعلم المختص، بالإضافة إلى باقة من المخضرمين ذوي الرأي والخبرة الحسنة، وإذا لم تستطع هذه الحكومة أن تحوّل موضوع ترشيد الإنفاق الحكومي إلى قرارات حاسمة كما ضربنا المثل؛ فلن تستطيع ذلك حكومة أخرى.

أما الافتراض بأن دخل البلاد لا يزيد على دخل النفط فهو افتراض خاطئ وخطير.

خاطئ؛ لأن في البلاد من عناصر الإنتاج وتوليد الدخل الشيء الكثير، وخطير؛ لأنه يربط مستقبل البلاد وسير عجلة الحياة فيها بما يحصل لهذه السلعة الزائلة.

وأنا أعتبر أن أي شعب لا يستحق البقاء إذا لم يبرهن على رغبته وقدرته على الحياة بإمكاناته الذاتية، صحيح أن الله منَّ علينا بهذه النعمة، ولكن الصحيح أيضاً أن الثروة المترتبة عليها قد تم توظيفها واستغلالها بشتى الأوجه، ومهما حصل من تبذير وإساءة استعمال، فإن الحصيلة النهائية هي أن ذلك التوظيف والاستغلال أدى إلى وجود ثروات قومية وفردية هائلة يمكن أن تبدأ في المساهمة الفعالة في تحمل نفقات دولة الرفاه التي نشأت في الكويت، ذلك أن الخطر إذا حل بالبلاد؛ فإنه لن يكتفي بأن يهدد الحكومة فقط، ولكنه سيهدد جميع ركائز المجتمع.

Comments are closed.