المشجب هو “علاَّقة الملابس” أو الشماعة التي يتم تعليق الملابس عليها، وعادة تكون الملابس التي تم استعمالها وتحتاج إلى الغسيل، والذي يفحص المشجب في أي بيت عربي يجد عليه خليطاً عجيباً من الأشياء.
والمشجب يؤدي دوراً كبيراً في حياتنا في البلاد العربية، فنحن نستعمله حين نريد أن نخفي عن أنفسنا نقاط الضعف والفشل في حياتنا، فنلقي عليه – أي المشجب – ونحمله بعضاً من هذا الخليط العجيب من الأشياء.. فمثلاً نحن دائمو الإشارة إلى مؤامرات الدول الكبرى علينا، ودور القوى الخفية في تسيير شؤوننا والتدخل فيها وتعكير صفو الحياة في بلادنا، ولقد مضى وقت طويل ونحن نحمل المخابرات البريطانية أولاً، ثم الأمريكية، والآن “الإسرائيلية”، كل أسباب المشكلات والهزائم والهموم، ولا شك أن هذه الأجهزة كان لها دور كبير في ذلك، إلا أننا – لكي نُرضي غرورنا – نحمّلها فوق طاقتها حتى نعفي أنفسنا تماماً من المسؤولية فيما يحصل لنا من كوارث.
وفي الكويت نحن عرب مثل العرب الآخرين، ولا نختلف عنهم في شيء؛ ولذلك فحين فاجأتنا أزمة السوق المالية، كان لا بد لنا من البحث عن المشجب، ولقد وجدناه في أفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، فحملناهم المسؤولية الكاملة فيما حصل للسوق، بحيث إن المرء يستغرب وهو يستمع لما يُروى من قصص عن هؤلاء الأبطال، هل بلغ الذكاء بهم مبلغاً بحيث يقودون لفترة من الزمن مؤسسات البلاد وشركاتها وعدداً كبيراً من وجهائها إلى هذا المطاف؟! وهل بلغ التخدير بالناس مبلغاً يقودهم إلى التصرف في تجارة الأسهم والعقار كما تصرفوا؟! وحين زادت حدة الاتهامات الموجهة إلى هؤلاء الأبطال، كان لا بد من وجود بطل غير كويتي حتى يسهل الأمر وحتى يكون كبش الفداء، وبالطبع انهالت التهم عليه من كل صوب، وكأنه شخص جاء من المريخ وتم اكتشافه فجأة وبدون مقدمات!
وهذا الكلام ليس دفاعاً عن هؤلاء، فالقضاء سيقول كلمته في تصرفاتهم طال الزمان أم قصر، ولكن الغريب في الأمر أن نحصر المشكلة في بضعة أشخاص، ونتصور بعد ذلك أن إفلاسهم وحبسهم سوف يحل المشكلة ويعيد للناس أموالهم، وكأن هؤلاء قد سرقوا أموال الناس في غفلة منهم، ولهذا فيجب استعادتها بقوة القانون!
وهذا الاتجاه في تفكير الناس يقودهم كذلك إلى الاعتقاد بأنهم سيستعيدون أموالهم بالكامل أو على الأقل بأرباح مخفضة أو حتى رأس المال الأصلي، ولا يكلف أحد نفسه بالتساؤل عن كيفية تغطية العجز الواضح الذي سيظهر قريباً بالأرقام، والذين يتكلمون عن استعادة أموالهم بالعودة إلى السعر السائد وقت البيع، ينسون أو يتناسون أن ذلك السعر قد تلاشى، وأن أسعار الأسهم هبطت إلى مستويات متدنية بشكل واضح؛ ولهذا فإن التخفيض لا يمكن أن يقف عند مستوى السعر الذي كان سائداً، ولكنه يجب أن يستمر حتى يلتقي بمستوى الأسعار الحالية – أو على الأقل – في منتصف الطريق معها.
هذا هو الوضع إذا اتبعت الوسائل القانونية البحتة التي تؤدي إلى وضع اليد والإفلاس والاستيلاء على الممتلكات، ثم توزيع عبء الخسارة على الدائنين، والذي يسأل الكاتب عن الحل، عليه العودة إلى قراءة المقال الذي تم فيه تفصيل الاقتراح بإصدار سندات تحل محل الشيكات، ويتم إطفاؤها على مدى عشر سنوات، وتضمنها الدولة، وتحمل فائدة معقولة، ويتم تمويلها بالضرائب والرسوم غير المباشرة. (وقد صدر المقال يوم 7/ 10/ 1982م في جريدة “الوطن” الغراء).
والمقصود في هذا المقال ليس نشر الكآبة، ولكن في إجبار الناس على مواجهة الواقع والاعتراف بأن المشكلة لن تحلها شركة المقاصة أو لجنة التحكيم، ولن يعيد للناس أموالها حبس فلان أو توقيف علان، وإنما الحل هو في فحص ما حصل للأمم الأخرى التي مرت بأزمات مشابهة، وكيف عالجوا الوضع وتوصلوا إلى حلول معقولة له، وكان أول قرار تتخذه السلطات المالية؛ أي البنوك المركزية التي تكون عادة في الواجهة والصدارة في ظل أوضاع كهذه، هو عدم اللجوء إلى القضاء العادي، ثم إجراء المقاصة.
ثم في إجراء تفاوض بين المدينين والدائنين بإشراف البنك المركزي – وهنا في الكويت رُؤي أن تقوم لجنة التحكيم بهذا الدور – ثم يصار إلى تصفية وإشهار إفلاس الأفراد والشركات التي تكون قد وصلت القاع، وبعد ذلك تقوم الدولة بتعويم المدينين حتى يستطيعوا السداد للدائنين، وتعود العجلة الاقتصادية العادية إلى الدوران، وتبقى الدولة دائنة لهؤلاء، وبعضهم لا يزال يسدد الدين الذي عليه للدولة في إنجلترا بعد مرور ثماني سنوات على الأزمة التي حصلت في السوق الإنجليزية عام 1974/ 1975م، وكانت تشبه الأزمة الكويتية، وإن لم تكن بحجمها.
أما حصر اللوم بأفراد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، فإن فيه إهانة لفطنة ونباهة باقي الناس الذين دخلوا السوق خلال السنتين الماضيتين وتعاملوا مع هؤلاء الأفراد بعضهم بعضاً.
ويجب الإقرار بأن المسؤولية جماعية، كما يجب البدء بالعودة إلى الوراء قليلاً، وإلقاء نظرة فاحصة على السياسات المالية التي اتبعتها الحكومة وخاصة خلال النصف الأول من عام 1981م وحتى صيف ذلك العام، حين فتحت خزائنها وقدمت أموال صيغ التثمين المؤجلة مرة واحدة وبما يقارب من 250 مليون دينار، ثم اتبعت ذلك بتقديم تسهيلات للبنوك بما يقارب 750 مليون دينار؛ وبذلك ضخت إلى الاقتصاد المحلي سيولة مقدارها 1000 مليون دينار دون تحديد الهدف من ذلك، اللهم إلا بتشجيع الناس على الدخول إلى سوق الأسهم والمضاربات، وقد تجاوب الناس تجاوباً فاق حدود التصور، وبدأت الأسعار في الارتفاع الخيالي اعتباراً من سبتمبر 1981م، وفي العادة تقرض البنوك خمسة إلى ثمانية أضعاف الأموال السائلة الموجودة لديها، فلما شعرت البنوك المحلية بأن الكيل قد طفح بعض الشيء؛ هبت بنوك البحرين المعفاة للنجدة، فضخت ما لديها من مال، فلما نضبت هذه العين جاءت الشركات المقفلة الجديدة وكلها تريد تحقيق أرباح تفوق 100% في أول سنة وبدون جهاز أو إدارة، فقذفت بما تحصل لديها من رؤوس أموال، وازدادت النار اشتعالاً فلم يكفها ما التهمته، وبدأ الناس في خلق ائتمان خاص بهم، وذلك في شهر مايو 1982م حين توقف صعود أسعار الأسهم، واكتملت المعالم الكلاسيكية للأزمة حين دخل العقلاء إلى السوق في آخر مراحلها قبل الانهيار، ولقد تعمد الكاتب استعمال كلمة الكلاسيكية لأن الذي حصل هنا حصل خلال السبعينيات في إنجلترا والبرازيل، وفي سوق ناقلات النفط، وغيرها من بلاد العالم، ولم يتم حل تلك الأزمات عن طريق المحاكم، فالمحاكم وجدت للأوضاع الطبيعية، أما الأوضاع غير الطبيعية فتتطلب حلولاً غير طبيعية.
وفي الختام؛ يجب البعد عن التشبث بالأوهام وتعليق الهموم على المشجب، والبحث عن كبش الفداء وإضاعة الوقت في المناقشات البيزنطية حول دستورية مشروع المرسوم بقانون الذي أصدرته الدولة، فإن ذلك يؤدي إلى اتساع الخرق، وزيادة خيبة الأمل المنتظرة، والدولة حين أصدرت ذلك المرسوم إنما قدرت أن الأمر قد وصل إلى مرحلة الأزمة، والدستور يتيح لها أن تصدر قوانين في غيبة مجلس الأمة، وهي – أي الحكومة – القادرة على تقرير مقدار الضرورة التي تؤدي إلى إصدار مثل هذه القوانين، ودعونا نقولها صريحة: إن ضمان الديمقراطية في الكويت ليس في النصوص الدستورية والقوانين، وإنما هو في ديمقراطية الحكم نفسه واقتناعه بأن هذا هو السبيل الوحيد أمام الكويت للبقاء والازدهار.