استعرضنا في المقالات السابقة عدداً من الخطوات الأساسية لزيادة الاهتمام باللغة العربية ورعايتها وأسلوب تدريسها وطريقة كتابتها، ونستأنف هنا عرض مزيد من الخطوات.
فرابع هذه الخطوات هي في التركيز على تعليم اللغة العربية فقط أدباً وقواعد وبلاغة ومعاني في المراحل الأولى من التعليم وحتى يبلغ سن الطالب إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة، ومنع تدريس أي لغة أجنبية أخرى، ثم الاستمرار في فرضها كمادة أساسية لا ينجح الطالب بدونها حتى نهاية المرحلة الثانوية والجامعية، وذلك إلى أن يتمكن الطالب من استيعاب لغته ويشرب من مناهلها ويتكون لديه أساس قوي في فهمها واستيعاب خفاياها والانتماء لها، وهذا الرأي ليس رأياً خاصاً ولا ثورياً، وإنما هو السياسة التي تتبعها معظم الأمم المتقدمة، فأوروبا لا تسمح بتدريس لغات غير اللغات الوطنية في المراحل الدراسية الأولى، وإذا كانت أوروبا هي المثل الأعلى فعلينا أن نقلدها في كيف تبني مواطنيها وتربي فيهم الانتماء، دونما حاجة إلى الطنطنة والصخب والضجيج بالنسبة للشعور القومي، وهل هناك شعور قومي أكثر من هبة الإنجليز هبة رجل واحد أثناء حرب فوكلاند؟ بينما لا يربط الكثيرون هنا بين الإنجليز وبين الشعور القومي من كثرة ما ينتقد الإنجليز بلادهم وقت السلم، إلا أنهم وقت الشدة ووقت الحرب تبرز فيهم الصفات القومية التي شربوا من مناهلها وتربوا عليها أثناء تكوينهم كمواطنين، وهو التكوين الذي يتم في المدرسة الذي يركز على اللغة الإنجليزية وحدها تركيزاً يكاد يكون تاماً لإبراز أهميتها كأساس للوطنية والقومية، ويلاحظ هنا وجود اتجاه غير صحي في وزارات التربية للتقليل من تدريس اللغة العربية لطلبة العلوم، وقد أعلنت وزارة التربية الكويتية أنها ستلغي مادة اللغة العربية لطلاب المرحلة الثانوية الذين يتخصصون في العلوم، بينما المفروض أن تزيد منه، وأن تسعى إلى أن يترسخ في ذهن الطالب رابط قوي بين اللغة العربية والعلوم الحديثة.
وخامس هذه الخطوات هي المنع التام وبقوة القانون وتحت طائلة العقاب الرادع لأي مواطن أن يبعث بأبنائه للدراسة في مدارس أجنبية؛ وذلك حتى لا نصنع بأيدينا طابوراً خامساً من الأفراد منقسمي الولاء الذين تربي فيهم المدارس الأجنبية المنتشرة بيننا صفات تجعل ميولهم خارج أوطانهم، وتخلق منهم نسخاً مشوهة عن مواطني البلاد التي ترعى المدارس الأجنبية، ولا يكفي للرد على هذا الرأي القول بأن المدارس الأجنبية هذه تدرس اللغة العربية والدين، فتدريسها هذا ليس إلا قشوراً، والكارثة تقع في المناهج الأخرى التي تربي المواطنية في الطالب، وتقع في تعويد الطالب على الفصل بين لغته الأصلية والعلوم الحديثة التي تقدم له بلغة أجنبية بحيث يتربى فيه مركب النقص تجاه لغته؛ وبالتالي تجاه انتمائه القومي.. والمدارس الأجنبية هي الآفة التي أشار إليها جبران خليل جبران بعد أن اكتشف هويته العربية فقال عنها كما أسلفنا: إنها جعلت من بلادنا “مجموعة مستعمرات صغير مختلفة الأذواق متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها”، وطبيعي أن إقفال المدارس الأجنبية يجب أن يكون مطلباً قومياً أساسياً، ويصحبه بالطبع أن تتكفل الدولة بتعليم أبناء العرب أينما وجدوا في هذا الوطن العربي ما دام وجودهم فيه تم حسب الأصول القانونية المعتادة.
وسادس هذه الخطوات هي في قيام المثقفين العرب بترجمة العلوم والفنون والآداب إلى اللغة العربية ترجمة مستمرة، بحيث يتم تقريب التطورات العلمية إلى اللغة الأم، وبحيث يرتبط التطور العلمي باللغة العربية، ويبقى الناطقون بها على اتصال دائم بما يحدث في العالم، ولنا في اليابان والصين عبرة.. وأي عبرة.. ففي اليابان تتم ترجمة كل ما يكتب على وجه الأرض وفي أي لغة كانت بحيث يكون تحت تصرف الباحث الياباني خلال أسابيع قليلة من نشره.
وسابع هذه الخطوات هي في الامتناع عن تدريس العلوم والطب والهندسة بلغات أجنبية في الجامعات العربية، واستخدام اللغة العربية بدلاً من ذلك، مع الاستمرار في الاعتماد على المصادر الأجنبية للرجوع إليها والتفاعل معها، ولكن لغة التدريس نفسها يجب أن تكون اللغة الوطنية، وحتى الدول الأوروبية الصغيرة تلجأ إلى لغتها الوطنية رغم عدم توافر المراجع في اللغات الأوروبية الرئيسة، ولنأخذ مثلاً هولندا أو المجر أو بلغاريا أو السويد.
وثامن هذه الخطوات هي في محاربة الابتذال الممجوج الذي ينجم عنه استعراض سخيف وجاهل للتعلق السطحي باللغات الأجنبية عن طريق استعمال إعلانات أجنبية واستعارة أسماء أجنبية لإطلاقها على المحلات والشركات وكتابة ذلك بالعربية، أو استخدام اللغات الأجنبية في المراسلة بين هيئات أو شركات أو مؤسسات عربية في بلاد عربية، والأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الفئات يعكسون انحطاطاً في الفكر والانتماء والشخصية ما بعده انحطاط.
وبعد.. فإن من مآسي هذا الزمان أن العرب لا يزالون يبحثون عن هوية، وسيقول البعض: إن هذا غير صحيح، وإن العرب هم أمة واحدة تمتد أرضها من المحيط إلى الخليج، وهذا أمر جميل كشعار، أما الواقع فهو غير ذلك، ليس سياسياً فقط، وإنما واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي، ومشكلتنا نحن العرب هي أننا نتحدث بلسانين أحدهما في مجالسنا الخاصة وفيه نقول الحقيقة كما رأيناها، والآخر للاستهلاك العام، ويتكون من التصريحات الرسمية التي يتفوه بها الرسميون هنا وهناك، بمناسبة أو بدون مناسبة، التي لا معنى لها، وربما يكون الرسمي يرددها لأنه حفظها عن ظهر قلب كالببغاء ولكنه لا يدرك مغزاها، أما الناس الذين اعتادوا على سماعها فإنهم ما أن يبدؤوا في الانتباه لها حتى يشيحوا عنها سمعهم.
وينسب البعض هذا التطور إلى ضعف أساسي في اللغة العربية، والواقع غير ذلك.. فاللغة هي أداة التعبير، والتعبير يعكس الشخص المتكلم ويعكس طبيعته؛ ولهذا فإن اللغة براء من هذا الانحطاط التعبيري الذي يجب أن يعاد إلى أصله، وأصله هو الشخص الذي يتفوه ناطقاً بكلام لا معنى له للاستهلاك العام، فإذا شاهدته في مجلسه الخاص تجد أنه يستعمل نفس اللغة ليعطيك آراء أخرى أقرب إلى الحقيقة من التصريحات الهوائية.
وكون اللغة العربية غنية بالتعابير والاصطلاحات والمعاني لا يعنى أن ندعي أن هذا العنصر الإيجابي إنما هو نقطة ضعف في اللغة نفسها، فالضعف فينا وليس في لغة التعبير، وهو في مشاعرنا وليس في وسيلة نقل هذه المشاعر.
وإذا كان “الإسرائيليون” قد أحيوا لغة ميتة هي اللغة العبرية وبعد آلاف السنين واستطاعوا خلال ثلاثين عاماً أن يجبروا اليهود القادمين من أنحاء العالم الذين ينتمون إلى أمم شتى ويتكلمون بألسنة مختلفة أن يجبروهم على استعمال اللغة العبرية التي انتعشت بعد ذبول، فكيف بنا ونحن أمام اللغة العربية وهي لغة لم تمت منذ بدأ الناس يتكلمون بها؟ صحيح أنها غطت في سبات عميق في فترة حكم الأجناس غير العربية لبلاد العرب، ولكنها انتعشت بمجرد أن هبت عليها نسمة العصر الحديث، وبقي علينا الآن أن نطوّرها ونقرّبها إلى فكر أهلها، ونسهل لهم الاعتماد عليها للتعبير ودخول الثورة العلمية الجديدة في كل ما تبقى لنا في هذا الزمان الرديء كي لا نفقد توازننا ونتوه، فيسقط حقنا في الحياة كأمة مثل سائر الأمم.
وخير ما نختم به هذه السلسلة قول حافظ إبراهيم:
وسعت كتــــــاب الله لفظاً وغايـــــــــــــة ومـــــــــــــــا ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصـــــــــــف آلة وتنسيـــــــــــــــــــــق أسمــــــــــاء لمخترعات
أنا البحــــــــــــــر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الصيـــــــــــــــــاد عن صدفاتي