القوانين التي صدرت حتى الآن لمعالجة قضية السوق تجمعها كلها صفة مشتركة هي أنها تسير جزءاً من الطريق ثم تقف، وتعجز عن تكملة المشوار، والقانون الجديد لا يختلف عن القوانين التي سبقته في هذا المضمار، ولهذا نجد أنه ما أن تمضي بضعة أيام على صدور القانون حتى يعود القلق وتعود الحيرة ويعود الوجوم.
وربما تكون المشكلة في القوانين نفسها كما سبق وأن ظهر بالنسبة للقوانين الثلاثة التي صدرت قبل إقرار القانون الأخير، ولكنها بالنسبة للقانون الأخير ليست كذلك رغم أن هذا القانون كان يجب أن يصدر في بداية الأزمة في سبتمبر 1982م.
وسبب عودة الركود إلى السوق، والوجوم إلى الناس؛ هو أن هناك بعض القرارات البديهية التي كان لا بد من اتخاذها منذ زمن بعيد، ولكن توجد كما يبدو قوى خفية تسعى لعرقلة ذلك.
وأول هذه القرارات البديهية هو الاعتراف الرسمي بالشركات الخليجية بعد أن اعترفت الدولة بها فعلياً، وأصبحت من أكبر الملاك لأسهمها حين حلت محل عدد من الدائنين الذين استفادوا من صندوق “صغار المستثمرين”، ويجب أن يصدر قرار صريح واضح من وزارة التجارة والصناعة يقضي بالاعتراف بهذه الشركات وتكوينها، وأن يكون هذا الاعتراف الرسمي مستنداً إلى تقارير واضحة ومسؤولة من مكاتب المحاسبة الكبرى والعاملة في البلاد، التي يمارس معظمها مهمة مراقب الحسابات في الشركات الخليجية، وبذلك يتم إقفال هذا الباب مرة واحدة ولا يعود مجال الشك مسيطراً بحيث يقف الحل السحري أمام الـ5% الباقية من الطريق ويصطدم بمثل هذه العقبة.
فالشركات الخليجية الآن هي شركات كويتية، ويجب أن تعامل على هذا الأساس، وتخضع لنفس الرقابة والانضباط الذي تخضع له الشركات الكويتية.
والقرار الثاني البديهي الذي لا يمكن تطبيق أي حل بدونه هو قرار تحديد قيمة الدينار بالنسبة لكبار المتعاملين المحالين على المؤسسة.
والأمر الذي لا يقبل النقاش هو أنه لا يمكن تحديد قيمة ثابتة لدينار المفلس، وذلك لسبب بسيط هو أن العناصر التي تتكون منها قيمة الدينار معرضة للتغيير يوماً بعد يوم، فدينار المفلس الآن يتمتع بقيمة تختلف عنها قبل شهر حين وصلت أسعار الأسهم الخليجية إلى القاع.. وهكذا.
إذاً.. فإن السبيل الوحيد لتقييم دينار المفلس هو افتراض سعر نظري يحدد على أساسه قيمة الدينار، ويتم بعد ذلك إجراء المقاصة وتصفية الحسابات استناداً إلى القيمة النظرية التي تصبح واقعية حين تكون مدعومة من الدول ومضمونة منها، وحينها ستتم تصفية أعداد هائلة من المعاملات عن طريق استعمال السندات التي تصدرها المؤسسة التي تعكس قيمة دينار المفلس.
وسوف تدور هذه السندات بين المتعاملين باعتبارها أداة دفع إلى أن ينتهي بها المطاف إلى أيدي الدائنين فقط، وحينها سيلجأ هؤلاء إلى النظام المصرفي لتسييل السندات، ويمكن مواجهة هذه الحالة باتباع أحد أمرين:
الأول: أن يتم خصم السندات بضمانة الدولة، وتعود السندات إلى ملكية الدولة التي تصبح حينها المالكة الوحيدة لموجودات المفلسين، وتعتبر هذا بمثابة استثمار طويل المدى.
الثاني: أن تسري على السندات فائدة تعادل الفائدة المصرفية + 1، وبذلك يتوافر لدى حاملي السندات حافز أساسي للاحتفاظ بها كلها أو الاحتفاظ بجزء منها كاستثمار.
ولا يعود هناك حاجة لتدبير مبالغ كبيرة من الدولة لمواجهة تسييل السندات.
والحل الثاني هو الأفضل في رأي الكاتب؛ إذ إنه سيخلف سوقاً ثانوية للسندات، وسيجنب الدولة تدبير مبالغ طائلة من المال، وسيمنع تدفق سيولة كبيرة إلى السوق؛ مما قد يقود إلى تضخم مالي كبير.
ومن مزايا هذا الحل أنه يجعل ضمان الدولة ضماناً نفسياً أكثر من كونه ضماناً مالياً، رغم أنه لا بد أن تستعد الدولة ببعض المال لمواجهة من يريد عدم الانتظار، فإن مجرد صدور الضمان من شأنه أن يقوي الثقة ويرفع من قيمة موجودات المفلسين، ويعزز تدريجياً قيمة دينارهم، بحيث تقل كمية الدعم المالي المطلوب، وربما تزول تماماً خلال فترة بسيطة من الزمن، بل وأن ترتفع الأسعار بحيث يصبح سعر الدينار الحقيقي أكثر من القيمة النظرية المفترضة له، وبذلك تحقق الدولة مكسباً.
وأقرب مثال على ذلك هو ما حصل في قضية إفلاس شركة كرايزلر في الولايات المتحدة، فحين أشرفت الشركة على الإفلاس في عام 1980م تدخلت الحكومة الأمريكية بطريقتين؛ الأولى أنها ضمنت للشركة قرضاً بمقدار ألف ومائتي مليون دولار تدفعه الشركة على مدى عشر سنوات (وقد استطاعت الشركة تسديده خلال ثلاث سنوات فقط)، والطريقة الثانية أنها اشترت أسهماً من كرايزلر بقيمة نظرية غير قيمة السوق (كانت قيمة السوق 5 دولارات للسهم، واشترت الحكومة الأسهم بـ13 دولاراً للسهم)، والآن وصلت قيمة السهم إلى أكثر من 30 دولاراً.
إذاً.. الاعتراف الرسمي بالشركات الخليجية أصبح أمراً لا يقبل التأجيل، وإلا فإنه سيشكل عقبة دائمة تعرقل أي حل مهما كان سحرياً.
وكذلك تقييم دينار المفلس عن طريق اعتماد سعر نظري ثابت مدعوم من قبل الدولة لفترة زمنية لا يمكن أن تطول إذا عادت الثقة إلى السوق.
هاتان البديهيتان هما من الإجراءات التنفيذية التي لا تحتاج إلى قانون، ويمكن أن يتم اتخاذهما خلال أيام.
ويبقى هناك أمر لا يقل أهمية..
إن فن العلاقات أصبح من الفنون المتطورة والمتقدمة التي يمكن عن طريقها نجاح أي إجراء أو فشله، والملاحظ عندنا في الكويت إهمالنا التام لهذا الفن أو العلم، إذ ما أن يصدر قانون ما في قضية الأسهم حتى يغط القوم المسؤولون في سبات عميق، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الشرح والتوضيح والتطمين وزرع الثقة، ودون أن يتعلموا من تجربة سنة 1982م شيئاً، وكأننا لم نمر في زلزال عنيف كاد أن يهد من كياننا.
إن المطلوب هو تفرغ تام لإعادة الثقة والطمأنينة إلى الناس، واستعداد أكثر من تام لوضع القوانين الصادرة موضع التنفيذ دون تأخير أو إبطاء، فالمفروض أننا أحطنا بكل ما يتطلبه الموقف من إجراءات ولم يعد هناك حاجة لمزيد من الدراسات بعد كل ما سبق دراسته، وهذا كله يتطلب توافر الحد الأدنى من فنون العلاقات العامة.