الإيمان بالقومية العربية باعتبارها الهدف الذي تسعى من خلاله الشعوب الناطقة باللغة العربية، لتوحيد صفوفها وتنسيق أوضاعها وحماية استقلالها وتعظيم مصالحها، يتطلب بادئ ذي بدء الإقرار والاعتراف بأن المد القومي الذي شمل المنطقة في الخمسينيات وإلى منتصف الستينيات، الذي ربط بين أجزاء الوطن العربي قاصيها ودانيها، قد انحسر.
والانحسار بدأ يتجسد في فشل الوحدة بين مصر وسورية، ثم في فشل المحاولات الاتحادية بين مصر وسورية والعراق بعد ذلك، ثم في نمو الخلافات الوطنية بين جناحي حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية والعراق، ثم بلغ مداه بعد هزيمة العرب عام 1967م، وتتالت بعد ذلك النكبات والمصائب حتى أصبحت هي القاعدة، وغير ذلك هو الاستثناء.
وكما أسلفنا في مقال سابق؛ فإن الحكومات العربية عملت من خلال أجهزة الإعلام، ومن خلال أنظمة التعليم، على التقليل من الشعور القومي العربي، واستبدلته تدريجياً بالشعور الوطني الإقليمي، وغرست الحكومات في أذهان الجيل الجديد هذا الشعور الذي يكاد يصل إلى درجة العنصرية، الذي تبدو خطورته حين يسود بين الجيل الجديد في بلاد لا تملك أبسط الوسائل للدفاع عن نفسها وحماية كيانها.
هذا هو بالضبط عكس ما فعلته وتفعله الولايات المتحدة، التي حرصت وتحرص على صهر الأجناس في بوتقة واحدة، ونسج قومية جديدة منتمية، بغض النظر عن أصل وفصل الأجيال التي قدمت إلى أمريكا مهاجرة، ولهذا سرعان ما تجد أبناء المهاجرين وقد اندمجوا في الحياة الجديدة، وشملهم “التأمرك” إلى درجة تثير حزن آبائهم، ولكنها تجعل منهم أمريكيين صالحين.
والفاحص لأنظمة التعليم الأمريكية يجد التركيز الهائل في المراحل الأولى من التعليم على اللغة وإجادتها، وعلى خصائص “التأمرك”؛ ولهذا يقال عن أنظمة التعليم الأمريكي: إنها ضحلة أو سهلة إذا أخذت بمقياس المعلومات التي تحشو عقل الطالب، ولكنها عميقة وهدافة إذا عرفنا الأساس والخلفية التي تحكمها، وهي خلق، المواطن الأمريكي، أمركته.
وبالمقابل؛ ماذا نرى في الوطن العربي.. قاصيه ودانيه بلا استثناء؟
نجد الناس يركزون على تعليم أبنائهم اللغات الأجنبية في المراحل المبكرة من حياتهم، حيث تتكون الشخصية، ويتحدد الولاء، ولعلنا الأمة الوحيدة بين الأمم الكبرى التي لا تفتخر بلغتها، ويحرص الناس على الرشف من اللغات الأجنبية قبل لغتهم، ويعتبرون المدارس الأجنبية انعكاساً لتقدمهم!
ونجد أن تعليم اللغة العربية يكاد الآن يحتل مكاناً منحطاً في الأولويات، ناسين أو متناسين أن تعليم اللغة العربية عملية صعبة، فنحن الأمة الوحيدة تقريباً التي تتكلم بلغة غير اللغة التي تكتب بها، إلا أن السلطات لا تقر ولا تعترف بأن الطفل حين يأتي إلى المدرسة أول الأمر، ويواجه مدرس اللغة العربية؛ فإنه يواجه لغة أجنبية عليه في الواقع، فهذه اللغة التي تفترض سلطات التعليم أنها لغة الطفل، هي في الواقع لغة غريبة على مسامعه، وربما سمع جزءاً منها في الراديو والتلفزيون، ولكنه – التأكيد – لم يسمع أباه أو أمه أو إخوانه وأخواته يتكلمون بها.
فإذا انتقلنا إلى علوم الدين؛ نجد العجب العجاب! فالتركيز هنا منصب على الكمية وعلى الحفظ، بل إن اختيار الآيات والسور بالنسبة للأطفال يوقعهم في حيرة من أمرهم، وما على الآباء إلا النظر إلى ما يقدَّم في هذا المنوال، ليجدوا أن السور التي تقدَّم لأطفال الابتدائي، يعجز عن تفسيرها مدرسو الدين أنفسهم.
فإذا أضفنا إلى ذلك صعوبة أخرى؛ وهي الخط الذي يكتب به القرآن؛ أي الخط العثماني، واختلاف ذلك عن الخط الذي يتعلمه الطالب في دروس الإملاء؛ فلنا أن نتصور “اللخبطة” الذهنية والفكرية التي يتعرض لها الطالب العربي في المرحلة الخطرة التي تتكون فيها شخصيته، ويتحدد ولاؤه وانتماؤه وشعوره القومي والوطني.. وبالمناسبة؛ فإن الإصرار على استعمال الخط العثماني في كتابة القرآن الكريم أمر في منتهى الغرابة، مع تطور أساليب الكتابة الحديثة، ويحتاج إلى تفسير مقنع عقلياً، غير الكلام عن الخوف من تحريف الكلمات، فالتحريف يمكن أن يتم حتى في الخط العثماني نفسه، حيث يصعب اكتشاف ذلك إلا من قبل المختصين، الذين تتناقص أعدادهم، وهذا الخط اندثر استعماله إلا في كتابة القرآن الكريم، ومن قبله سبق أن اندثر ما عرف بالخط الكوفي الذي استعمل في كتابة القرآن أيام البعثة النبوية، ولا يوجد شيء مقدس يدعو إلى الاحتفاظ هذا الخط، وحبذا لو كلف عدد من علماء المسلمين أنفسهم بالبحث في هذا الأمر وحسمه، حتى تكون لنا كتابة موحدة تشمل قدسياتنا وحياتنا اليومية، وبعدها نبدأ في علاج لغة الكلام.
وهذا الاسترسال ليس خروجاً عن موضوع القومية العربية، وإنما هو من صميم البحث فيها، فاللغة هي أساس القومية الصلب؛ ولهذا نلحظ أن أعداء الاتجاه القومي يركزون همهم وجهدهم عليها، ونلاحظ ما يحصل في لبنان من غلاة التعصب الماروني الذي يريدون استعمال لغة أخرى، يسمونها “اللغة المحكية”، مستعملين لفظاً عامياً للتدليل عليها.
فاللغة والكيان الديني هما الأساس، وما عداهما ليس إلا الفرع.. وتدريس اللغة العربية في وضعه الحالي يخرج لنا أناساً لا يستطيعون كتابة فقرة قصيرة في موضوع ما، وبلغة عربية سليمة، كما أن رد الفعل المنتشر لطريقة تعليم الدين بالكم وأسلوب الحشو؛ هو في الإهمال التام له، وعدم مناقشة أموره من قبل معظم أبناء الجيل الجديد، بحيث فصلوا في أذهانهم ما بين الدين وحياتهم اليومية واهتماماتهم العادية.
ولهذا نجد أن المد القومي انحسر بنفس السرعة التي انتشر فيها؛ ذلك أنه لم يكن موجوداً على أرض صلبة، وادعاء غير ذلك يفقد الموضوع أهميته، ويدخل به في عالم المجادلة اللانهائية التي تدور في حلقة مفرغة.. ولهذا لا تنتهي إلى نتيجة.
أما المؤمنون بالقومية العربية، فإنهم يشخصون الداء أولاً وبغض النظر عن عواطفهم وميولهم.. وبعد ذلك يبدأ العلاج.
والكاتب يؤمن إيماناً عميقاً بأن من أهم أسباب انعدام الحس القومي لدى العرب هو نظام التعليم السائد في البلاد العربية، حيث وصل تعليم اللغة العربية إلى مستويات متدنية، ووصل تعليم الدين إلى مستويات ثقيلة، وحتى الكتابة لا يزال يدور حولها خلاف مستمر.. أما تاريخ هذه الأمة الممتد قروناً طويلة، والحافل بالأحداث الجسام التي غيرت مجرى التاريخ، وأثرت على البشرية جمعاء، فإن تقديمه للطالب العربي لا يخرج عن مجرد قصص تروى هنا وهناك بأسلوب ممل، لا يلبث أن يزول من ذهن الطالب، ولا يشجعه على المقارنة، ويقدم الشخصيات التاريخية الإسلامية والعربية، بأسلوب مقدس بحيث يخرج بها عن مستوى البشر، وبذلك تنتفي الرابطة بينهم وبين من يدرس حياتهم.
ولقد وصل بنا المستوى المنحدر إلى درجة أن فشلنا في عرض تاريخنا الحافل على شاشة التلفزيون، وعجزنا عن استخدام السينما لإيصال مفهوم هذا التاريخ العظيم إلى الجمهور؛ لأن بعض المتحجرين الجهلاء لا يريدون أن يتقمص ممثل حديث شخصية أحد من أولئك العظماء الذين صنعوا التاريخ، بحجة أنهم من الصحابة، ونسي هؤلاء أن الصحابة بشر يصيبون ويخطئون.
هذه كلها عوامل أساسية في انعدام الوعي القومي، والذي سهل انحسار القومية العربية حين مني روادها بالهزيمة العسكرية، وبدلاً من أن تؤدي تلك الهزيمة إلى شحذ الهمم، والبدء من جديد كما حصل في ألمانيا واليابان؛ نجد أن العكس قد حدث، وبدأ العرب في مرحلة الاستسلام المستمر منذ ذلك اليوم المشؤوم عام 1967م وحتى يومنا هذا.. والله أعلم بما يخبئه المستقبل، فنحن قد أسلمنا أمرنا لغيرنا، وبتنا مختصين في ردود الفعل لا الفعل نفسه.