May 20, 1982

تُرتكب في الكويت يومياً جرائم معمارية، ولا يبدو أنها ستتوقف، فالناظر إلى واجهات المباني في الكويت يتحسر على الملايين التي أُنفقت كي تكون نتيجتها معماراً لا شخصية له ولا كيان، ولا يؤثر في الناس أو يتأثر بهم، فالكويت أصبحت محطة تجارب لأنصاف المتعلمين، وجاءت نتيجة أعمالهم كما قال الشاعر:

فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة           مشكلة الألوان مختلفات

وواجهات المباني العامة والخاصة ليست ملكاً خاصاً، وإنما هي ملك عام، له علاقة بالذوق العام، ولذا لا تسمح البلاد المتقدمة للأفراد أو المؤسسات بالتصرف حسب أمزجتهم الخاصة سواء في شكل المباني أو لونها، وفي تونس تفرض الحكومة على الناس تبييض مساكنهم سنوياً؛ أي طلاؤها باللون الأبيض (وليس تغليفها بالبيض!)، فإذا لم يقوموا بذلك؛ بادرت البلدية إلى تبييضها على حسابهم مع فرض غرامات عليهم.

وليس من شك أن المسؤول الأول والأخير عن القبح المعماري المسيطر على البلاد هو بلدية الكويت، وحتى أماكن وقوف السيارات التي بنتها الشركات على أراضي الدولة

وبإيجار رمزي؛ لم ترَ البلدية ضرورة أن تقوم تلك الشركات بطلاء مبانيها بألوان معقولة، بدلاً من الاكتفاء بلون الإسمنت الذي يذكِّر الإنسان بالغبار، وكأن الغبار بضاعة نادرة في الكويت! والشركات بالطبع هدفت إلى التوفير، والدول تعتمد على العمارة وشكلها في المباني العامة، لتحسين الذوق العام للناس، أما هنا؛ فالمباني العامة لا تشكل مثالاً يحتذى به ذوقياً.

سوق المناخ

حيث إنه لم يبقَ أحد لم يعلق على سوق المناخ، فإنني سأدلي بدلوي في هذا النشر العميق.

فأنا أزور السوق مرة أو مرتين في الأسبوع، حيث إنني لست من المضاربين، ولهذا لا أحتاج إلى التواجد اليومي، فالمستثمر يستطيع أن يدير أموره بالهاتف، ويحتاج بين فترة وأخرى أن يمر بالسوق حتى لا ينسى تقاليدها وظروفها، وحتى يلتقي بزملاء المرحلة الابتدائية والثانوية في الدراسة.

وأنا من الناس الذين شعروا لفترة من الفترات – وكنت حينها أتردد على السوق أكثر من مرة أو مرتين – شعروا بالتبلد الذهني، حيث إن عدد المفردات التي تستعمل في تخاطب الناس مع بعضهم في سوق المناخ محدود جداً، ويكاد لا يزيد على عشرين كلمة تتراوح ما بين: “اعتمد، بايع، شاري، مدة، يستاهل بو عادل، علشانك…” إلخ من الأدوات البورصوية المستحدثة.

وقد ارتكبتُ في بعض الأحيان أغلاطاً أوقعتني في مواقع حرجة، إذ استرسلت مرة في الحديث عن موضوع لا علاقة له بالنشاط البورصوي، وفجأة انتبهت إلى أنني أحدِّث نفسي، فقد انفضَّ عني القوم رغم عدم مغادرتهم المكان الذي تواجدنا فيه، وشعرت ليس بأنهم تضايقوا، بل بأنهم انصرفوا بوعيهم انصرافاً تاماً يتجسد في العيون الشاردة، والهمهمات المتبادلة بلغة البورصة المختزلة، وهكذا تلاشت الكلمات في فمي، وليس أكثر حرجاً للمرء حينما يشعر أنه مستثقل، نسبة إلى ثقل الدم، ولهذا رأيت أن أقلل من زياراتي للسوق، ولا أستفيض بالحديث غير البورصوي.

ولكن هذا المكان الفريد من نوعه يعيد الناس في الكويت إلى أصولها وجذورها، فهنا يتساوى الجميع، وتتلاشى الفوارق الاجتماعية، وتندثر الأصول، فالجميع من آدم، وآدم من تراب.

ولهذا فإن تأثير سوق المناخ الاجتماعي لا يقل عن تأثيره الاقتصادي، ولا أعتقد أن البورصة الجديدة ستنجح في خلق الجو غير المتزمت الذي يسود سوق المناخ، فهذه الظواهر الاجتماعية لا توجِدها القوانين، وإنما توجِدها قوى خفيفة يمكن تسميتها بالإرادة العامة لدى جمهرة من الناس، ويتصادف وجود هذه الإرادة لدى عدد كبير منهم في وقت واحد فتحدث الأمور.

ولقد لاحظ هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة صديق عتيق غادر الكويت منذ عشر سنوات، وعاد هذا العام، فصحبته إلى سوق المناخ، وهناك فغر فاه من الدهشة حينما رأى الناس جلوساً سواسية! وكان هذا الصديق من المتتبعين للأصول العرقية لعائلات الكويت، والمهتمين بتطورات امتزاج الخلايا بينها، فأبدى تلك الملاحظة التي أشرت إليها أعلاه، في أن السوق قد ساوت بين الناس.

وسوق المناخ ظاهرة تعبر عن رغبة الناس في الاحتكاك ببعضهم بعد أن كاد نمط الحياة الجديدة في الكويت يفرق بينهم، وخير ما تفعله الدولة في السوق أن تتركها لقواها الذاتية التي تحركها حسب ما تريده الإرادة العامة التي أشرت إليها أعلاه، وإذا ما حاولت الدولة أن تقنن هذه الظاهرة فستكون النتيجة أن تقضي عليها، أو أن تدفع بها إلى الظهور في مكان آخر.

Comments are closed.