وما أدراك ما البنوك، وإنها بالنسبة للاقتصاد كالقلب بالنسبة لجسم الإنسان، وكما أن القلب يتعب ويحتاج لمضخات جديدة، فإن البنوك في أي اقتصاد ربما تصاب بالتعب، ويضيف تنفسها فينعكس هذا الضيق على الناس.
ولمعرفتي بمدى حساسية هذا الموضوع، فإنني أود أن أطرح من وجهة نظر واقعية اجتهاداً خاصاً توصلت إليه عن طريق المراقبة، وعن طريق فحص الأرقام المتاحة والمنشورة رسمياً.
وهذا الرأي هو أن الاقتصاد الكويتي بحاجة شديدة إلى المزيد من البنوك التجارية والاستثمارية والمتخصصة.
ولكي أبرز هذا الرأي أود أن أتطرق أولاً إلى التبرير الذي يساق الآن، لدعم وجهة النظر القائلة: إن البلاد مكتفية بما لديها من بنوك، وإنه بدلاً من الإكثار من البنوك، فإن علينا تقوية البنوك الحالية وتكبير حجمها.
فأقول: إن مجرد النظر إلى إجمالي ما تقدمه البنوك من قروض وتسهيلات، ونسبة ذلك إلى موجوداتها، وما يقال ويتكرر عن نقصان السيولة لديها يوضح بما لا يقبل الشك ما أشرت إليه من ضيق القلب بالشرايين الحالية حاجته الشديدة إلى شرايين إضافية حتى لا تتعطل الشرايين القديمة.
فحسب ما هو متوافر من أرقام، يتضح أن البنوك تقرض أكثر من 100% من إجمالي الموجودات لديها، وهو وضع غير صحي وغير سليم، فالنسبة المألوفة والمتعارف عليها عالمياً تتراوح ما بين 75% إلى 65% من موجودات البنوك، ومعنى ذلك أن البنوك الكويتية تتعرض لضغوط هائلة لا تستطيع بوضعها الحاضر أن تستوعبها؛ مما يضطرها إلى الاستعانة بالاحتياطيات الموجودة لديها بعض الأحيان، المتزايدة في السوق، وتوفر السيولة المطلوبة، وتشبه في وضعها حينئذ وضع الفندق الذي قد تصل نسبة الإشغال فيه بعض الأحيان إلى أكثر من 100% من طاقته.
إذاً لا بد للبنوك من عون إضافي على شكل بنوك أخرى إضافية؛ تساهم في سد الحاجة إلى المزيد من القروض والتسهيلات التي يتطلبها الاقتصاد الكويتي.
أما موضوع الرغبة في تكبير البنوك الحالية ودعمها وتوسيع نشاطها، فإنها رغبة بحاجة إلى تفسير وتعليل، القطاع الخاص لا شك يرغب في أن يرى بنوكه تكبر وتضاهي أكبر بنوك العالم وتتوسع في الكويت وخارج الكويت لكي تخدمه أينما ذهب، أما الحكومة فإذا كانت لديها هذه الرغبة، فإن تصرفها لا يدل على ذلك؛ إذ كان من المفروض – إذا هدفت الحكومة إلى تكبير وتقوية البنوك الكويتية – أن توكل إليها أمر إدارة المال الاحتياطي أو على الأقل جزء كبير منه، بدلاً من إيداعه في البنوك الأمريكية وغيرها في العالم الغربي، وتشترط مقابل هذا أن تتجه البنوك إلى “التكويت” في إدارتها، وهذا الرأي سبق أن طرحته من قبل سنتين في مجال إبداء الرأي في الوضع المصرفي.
والتكويت في البنوك أمر غاية في الغرابة؛ إذ إن الكويتيين الذين اقتحموا ميادين شتى في الإدارة والصناعة والزراعة والاستثمار داخل وخارج البلاد لا يزالون بعيدين عن الإدارة المصرفية إلا في حالات قليلة ونادرة، وهو أمر مثير للتساؤل في أبسط الأحوال! وأعتقد أن فترة ثلاثين عاماً تكفي لتخريج مديري بنوك كويتيين على درجة عالية من الخبرة والكفاءة؛ ولهذا فإن السؤال الحائر يبقى بلا جواب!
وموضوع تكبير البنوك وتقويتها يتطلب أيضاً تشجيعها على التوسع في أعمالها خارج البلاد عن طريق فتح الفروع حيث يتواجد الكويتيون، ولا نقصد بفتح الفروع إنشاء دكان صيرفة كبنك الكويت المتحد الذي مضى على فتحه في لندن أكثر من خمسة عشر عاماً دون أن يشعر المرء بأن له أثراً سوى كونه خزينة خاصة للكويتيين، أما الأعمال المصرفية العادية والخدمات التي يتوقعها الزبائن من البنك، فقد كان أبعد ما يكون عنها، بالإضافة إلى ذلك لم يستطع كويتي واحد اقتحام جدران ذلك البنك، وبالمقارنة نجد أن مكتب الاستثمار التابع للحكومة الكويتية في لندن يدار بكفاءة كبيرة من قبل كويتيين متخصصين، أصبحوا يضاهون جهابذة المال في أي مكان من العالم، ومن البديهي أن يقال: إن من يدير بلايين الدولة يستطيع أن يدير ملاليم بنك الكويت المتحد.
وحتى الآن لم تُقْدِم البنوك الكويتية الحالية على التوسع في فتح الفروع الخارجية حتى تلحق بالكويتيين تخدمهم أنَّى كانواً وأنى رحلوا، وربما كان سبب ذلك خوف البنوك من طلب المعاملة بالمثل.
إذاً فموضوع تكبير البنوك ليس إلا مجرد أقاويل، والواقع يقول بغير ذلك؛ إذ لو كان هذا هو الهدف – كما أسلفنا – لرأينا بنوكنا تدير أموال البلاد وتتوسع في فتح الفروع، وتقتحم العالم كله.. هذا هو الرد على الرأي القائل بأن البلد مكتفٍ بما لديه من بنوك، وأن الجهد يجب أن يتجه إلى تقوية البنوك الحالية.
فإذا عدنا إلى دراسة ظاهرة الودائع لدى البنوك، وقارنا حجمها الحالي بحجمها قبل أربع أو خمس سنوات؛ نجد أن حجم الودائع قد تضاعف عدة مرات؛ بحيث ارتفع من بليوني دينار تقريباً إلى 8 بلايين دينار تقريباً، وهذا هو المؤشر الحقيقي الذي يعكس نمو الاقتصاد بغض النظر عن كل المؤشرات الأخرى، رغم ما لها من أهمية؛ أي أن حجم النشاط قد تضاعف عدة مرات وبقيت الخدمة المصرفية كما هي، دون زيادة أو تغير، ولم يتطور جهاز البنوك مع تطور موجوداتها وودائعها، وذلك لعدم رغبة البنوك – كما يظهر لأول وهلة – في زيادة مصروفاتها الإدارية.
وإذا قيل: إن علاج هذا يكون في إقدام البنوك الحالية نفسها على زيادة عدد أفراد جهازها؛ فإن الجواب: ولماذا يتم ذلك حتى الآن؟
أما عن الخدمة التي تقدمها البنوك الآن إلى الجمهور، فأعود مرة أخرى إلى تشبيهها بوضع الفنادق حين تمتلئ بالزبائن بنسبة 100%، حينها إذا احتجَّ أحد على سوء الخدمة، يكون الجواب: “إذا مو عاجبك شوف لك مكان ثاني..”، وبالطبع لا يوجد مكان ثانٍ؛ لأن جميع الفنادق تكون حينها مليئة بالزبائن بنفس النسبة؛ أي 100% والفندق عادة يتجلى في الخدمة ويكون في أحسن حال – من وجهة نظر الزبائن بالطبع – إذا كانت نسبة الإشغال فيه لا تزيد على 60 – 70% من طاقته، حينها تحرص إدارة الفندق على إرضاء الزبون، وتسعى لتوفِّي الراحة التامة والخدمة المميزة له، وتتجاوب مع رغباته في حدود إمكاناتها.
وهذا هو وضع البنوك الكويتية الآن؛ حيث إن السوق هي سوقها وليس سوق المودعين والزبائن الذين يحتاجون لخدمتها، ولن يكون هناك حل للمشكلة إلا بزيادة عدد الفنادق، كما في مثالنا السابق، أو البنوك كما نقصد في الحقيقة.
ومعروف أننا لا نستطيع تجاوز طبيعة الإنسان، وما أضفى الخالق عليه من طباع، ومن أهم هذه الطباع أنه يكون في وضع أفضل للتعامل مع مؤسسات المال إذا كانت تربطه بها علاقات راسخة متمثلة في امتلاكه أسهمها أو بانتمائه إلى المجموعة التي تمتلك أغلبية تلك الأسهم، ونحن نقول لهؤلاء: هنيئاً لكم.. ولكن.. توجد فئات أخرى وجديدة برزت على مسرح الحياة الاقتصادية، وأصبح لها تأثيرها الواضح في حياة الناس ونشاطاتهم، وبتنا نسمع عن أسمائهم الجديدة نوعاً ما، في نشاطات الأسهم والعقار وغير ذلك من نشاطات الكويتيين المألوفة، وهؤلاء قد لا تربطهم تلك الصلات الوثيقة بالمؤسسات المالية القائمة، وهم بحاجة إلى مؤسسات جديدة تخدمهم وتسهل معاملاتهم.
وإذا نظرنا إلى البنوك المتخصصة، فإننا نرى العجب العجاب! فلا عقار مثلاً يكاد يمثل نصف النشاط التجاري الذي يمارسه المواطنون، ومع ذلك يوجد بنك عقاري واحد، بينما الوضع الطبيعي يحتم وجود عدة بنوك عقارية، تعكس حجم الاهتمام والتداول في النشاط العقاري، وما دخول بيت التمويل إلى ميدان العقار إلا بقصد ملء الفراغ، فالطبيعة تكره الفراغ، ولا تسمح له بالاستمرار، وأنا لا أريد هنا أن أعلِّق على سياسة بيت التمويل في موضوع النشاط العقاري ومدى تأثيره على تقلبات الأسعار في الأراضي، فهذا يستحق وحده بحثاً منفصلاً، إلا أنني أعتقد أنه لم يدُر بخلد من فكَّر في إنشاء بيت التمويل أنه سيصبح فعلياً بنكاً عقارياً أكثر منه أي شيء آخر، وبيت التمويل – كبنك – لا يخضع حسب علمي لمراقبة البنك المركزي.
ومعنى ذلك أن القطاع العقاري الذي يشغل وقت وتفكير عدد كبير من المواطنين كان ولا يزال بحاجة إلى خدمة أكبر من الخدمة الحالية المتوافرة في بنك واحد أو اثنين.
أما بنوك الاستثمار، فالذي يشعر بالحاجة إليها، وهم أولئك المتفائلون الذين لا يزالون يفكرون في التنمية، والتصنيع، رغم الجذب المغناطيسي الفتاك الذي تشكله سوق المناخ وبورصة الأوراق المالية الكويتية، والبنك الصناعي قد سد فراغاً كبيراً في هذا المجال، ولكن تبقى الحاجة إلى وجود بنوك استثمار تعضد هذا البنك، وتكمل تغطية الاحتياجات الائتمانية للمشروعات.
ويتحدث الناس الآن عن بيوتات الخصم التي يمكن لها أن تعالج موضوع الشيكات آجلة الدفع، ولا أدري لماذا لا تقوم شركات الأوراق المالية التي تم إنشاؤها حديثاً بهذه المهمة؟
وفي الختام؛ لا بد للتطرق إلى مفكرة البنك الضخم الذي لم يجد أصحابه لفظاً عربياً للاستعمال؛ فلجؤوا لكلمة “جمبو” للاستدلال على الحجم المقترح له وشموليته، وكلما وردت هذه الكلمة تذكرت قول المرحوم حافظ إبراهيم:
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ؟!
فأقول: إن فكرة إنشائه جيدة؛ لأنها ستضيف بنكاً أو مصرفاً جديداً، وهو أمر مرغوب فيه ومطلوب، أما دعوة البنوك الأخرى وشركات الاستثمار للمساهمة فيه، فهو – في رأيي – أمر لا داعي له إطلاقاً، والأفضل أن يطرح رأسمال البنك بكامله للاكتتاب، وسوف يتم تغطيته في لمح البصر، وسبب هذا الرأي هو أن هذا البنك سيعطي فرصة للفعاليات الاقتصادية الجديدة كي تتخذ منه مركزاً لها، أما تكبيله منذ بداية الطريق بمساهمات أمن البنوك القائمة فليس له أي تبرير اقتصادي؛ إذ إن هذه البنوك لن تساهم في إدارة البنك الجديد، ولن تكون متحمسة لنجاحه؛ حيث إنه سيكون منافساً لها، وهي في غنى عن الكسب المتوقع من ارتفاع سعر أسهمه، إذاً لماذا تساهم هي في ملكية منافس لها؟
وفكرة هذا البنك الشامل فكرة جيدة جداً، حيث ستخرج به عن الشكل التقليدي الإنجليزي الذي توجد به بنوكنا إلى الشكل الأوروبي الشامل الذي توجد به بنوك ألمانيا واليابان والسويد وغيرها؛ مما يتيح له مرونة أكبر، وقدرة أفضل على الخدمة، والدخول علناً في مساهمات صناعية وعقارية، وفي أسهم الشركات بدلاً من الدخول الخفي، كما هي الحال الآن.
وأنا أطالب بالسماح بأكثر من بنك واحد من هذا الطراز للأسباب الآتية:
أولاً: أن الحاجة هي لعدد من البنوك، ولن يستطيع بنك واحد فقط أن يحل المشكلة المستعصية الآن، ويملأ الفراغ، ويوفر الخدمة المطلوبة.
ثانياً: أن هذا النوع من البنوك من شأنه أن يغني عن الأنواع المتخصصة التي ذكرناها؛ لأن شموليته ستجمع تلك التخصصات مع بعضها تحت سقف واحد، وهذا أفضل بكثير من الانفراد بنوع واحد من التخصص.
ثالثاً: لا داعي إطلاقاً لدعوة المؤسسات المالية القائمة للمساهمة، فالقطاع الخاص الفردي قادر على تغطية رأس المال لخمسة بنوك من هذا النوع على أقل تقدير، ومهما بلغ حجم رأس المال.
رابعاً: إذا كان لا بد من وجود الدولة في قائمة المساهمين باعتبارها تنوب عن الجميع، فالأفضل أن تكون مساهمتها بنسبة لا تتجاوز 20% من رأس المال المقترح، ويطرح الباقي للاكتتاب العام، ووجود الدولة يكون هنا بقصد المراقبة المباشرة وليس بقصد الربح.
هذه آراء أطرحها للمساهمة في المناقشة العامة حول موضوع حساس وأساسي في غياب المنبر الطبيعي للمناقشة، ولقد كان من نِعَم الله على البلاد وجود مجلس التخطيط في الستينيات وبعض السبعينيات، ولو لم تكن هناك فائدة من ذلك المجلس في نظر البعض فيكفي أنه كان المنبر الحر للآراء والأفكار، يتم طرحها وتبادلها في حضور أولي الأمر، بحيث تُعرض جميعها على البحث والتمحيص، وبحيث يأتي اتخاذ القرار النهائي من قِبَل أولى الأمر، بعد الاستماع إلى مختلف الآراء، مستنيرين بقوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125}) (النحل).