مجتمعات العالم يتم اختبار تماسكها عن طريق الحروب؛ فإما أن تتماسك أو تتداعى، والمجتمع الكويتي جنبه الله ويلات الحروب – حتى الآن على الأقل – ولكنه يجتاز امتحاناً عسيراً لا يقل شراسة عن امتحان الحرب، وهذا الامتحان يمتحن صلابة المجتمع وتماسكه وقت الشدة، ويختبر مفهوم الأسرة الواحدة اختباراً نهائياً وحاسماً، ففي أوقات الشدة والأزمات يجب نفض الغبار عن الصفات السامية التي طالما تغنَّى بها المجتمع، ولم تضطره الظروف المريحة أن يمارسها؛ فأوقات الرخاء تشع السعادة والسماحة على الجميع، أما أوقات الشدة فتشع التعاسة والتشدد حتى على أقرب الناس، وأمام الكويت الآن طريقان لا ثالث لهما: إما اجتياز الامتحان، وتثبيت مفهوم المواطنية والانتماء؛ وبالتالي مواساة الناس لبعضهم مادياً ومعنوياً، وإما الفشل في الامتحان؛ وبالتالي الفشل في مفهوم المواطنية الحقة، وزرع الشك والحقد في نفوس الناس، ناهيك عن فقدان الثقة العالمية في البلاد كمثال على حسن الإدارة المالية، ولكن هذه تعتبر ثانوية الآن إذا ما قيست بما هو مطروح من اختبار تماسك المجتمع وحقه في الحياة.
وليس هذا دفاعاً عن التصرفات التي أدت إلى أزمة السوق، وتكاد تصيب الناس بالهلع والذعر، فهذه التصرفات هي حصيلة مجموع التصرفات من الجميع؛ سواء كانوا مستثمرين عاديين أو متداولين كباراً أو مضاربين صغاراً وكباراً أو مدخرين جمعوا تحصيلة العمر ورموا بها في السوق أو الدولة بأجهزتها وسياساتها المختلفة.
ولكن ليس هذا أيضاً وقت المواعظ وإلقائها أو التذكير بما قيل في السابق، فالكثيرون الآن يدَّعون الحكمة بعد وقوع المحتوم، وكانت الحكمة غائبة عنهم قبل وقوع المحتوم.
الوقت الآن هو وقت ضبط الأعصاب والتصرف بهدوء وعقلانية، والعقلانية يجب أن تسود المتعاملين أولاً وقبل غيرهم؛ بحيث يخففون فيما بينهم من الحقوق المترتبة عليهم، كما أن العقلانية تفرض عليهم عدم الإصرار على مستوى الأرباح التي عقدت فيها الصفقات في الأشهر الثلاثة الماضية التي لم يكن لها ما يبررها من مسببات، والاكتفاء بمستوى معقول يتم الاتفاق عليه ودياً.
والعقلانية تتطلب كذلك أن يقوم المقتدر بدفع ما يستحق عليه دون ربطه بأي تطورات أخرى، ودون استغلال الظرف للمساومة.
والعقلانية تتطلب وقوف المقتدر إلى جانب زميله الذي أصبح غير مقتدر، ويجب على هذا المقتدر أن يتذكر ما حققه من جراء التعامل مع غير المقتدر الحالي من أرباح ضخمة، ويرد له جزءاً من الجميل.
والعقلانية تتطلب كذلك أن تقذف الشركات التي حققت أرباحاً كبيرة – في ظل هذا النظام الكويتي الذي اجتاز امتحانات صعبة في السابق، والكل يتمنى له نجاحاً مماثلاً في هذا الامتحان – أن تقذف بجزء من تلك الأرباح لتعزيز قيم الأسهم في السوق؛ فتساعد بذلك على تمكين حملة الأسهم من التصرف بجزء منها بالبيع؛ وبالتالي تسديد جزء من التزاماتهم المترتبة.
ولكن كل ذلك لا يغير من الموضوع الأساسي شيئاً، وهو أن الجميع اشترك وساهم في هذا الوضع الذي وصلت إليه البلاد؛ وبالتالي فإن الجميع مدعوون للمساهمة في الحل والتضحية بالجزء حتى يمكن الاحتفاظ بالكل، وإن كان كلاً بحجم أصغر.
ومع تعدد الاقتراحات وتنوع الآراء، فمن المفيد حصرها بقدر الإمكان فيما يلي:
1- إن الوضع يتطلب انضباطاً في الآراء والتصريحات الصحفية التي لا تُقدم ولا تُؤخر في علاج الأمر، إلا أنها تكون كالزيت الذي يصبّ على النار وهي مشتعلة فيزيدها اشتعالاً.
2- إن وزارة التجارة والصناعة يجب أن تستمر في إمداد الصحافة بتطورات الموقف والعلاج المقترح له؛ ذلك أن انتشار الشائعات، وتأليف القصص الخيالية؛ يساهم بدوره في تضخيم الأزمة، ويكون مثل كرة الثلج التي تتدحرج من عل، وتكبر مع الانحدار.
3- الصحافة العالمية بدأت تكتب عن الوضع، وحبذا لو تم التصدي لذلك عن طريق أناس يجيدون التحدث باللغات الأجنبية؛ إذ كثيراً ما تسبب الضعف اللغوي في إعطاء المراسل الصحفي الأجنبي مادة مثيرة لم يكن يقصدها المتحدث، ولا يكفي إجادة اللغة، إذ يجب أن يكون المتحدث ملماً بالموضوع كذلك، والصحافة العالمية ستذكر الآن أنها تنبأت بما سيحصل.. وقد حصل.
4- قانونياً؛ تكاد تتفق الآراء على ضرورة إدخال تعديل على القانون التجاري بشأن صرف الشيك في تاريخه المحدد، ويمكن صدور مرسوم بقانون في غياب مجلس الأمة يكون له مفعول فوري، ويتم عرضه على المجلس في بدء دورته المقبلة، والذين استكثروا على الحكومة تمتعها بسلطة التشريع خلال غياب المجلس، عليهم أن يتذكروا أن هناك حالات اضطرارية – كالحالة التي نحن فيها الآن – تستوجب التدخل القانوني الفوري من قبل الدولة.
5- حتى يتم إنشاء شركة المقاصة المقترحة، يجب تعزيز الجهود المشكورة الرائعة التي قامت بها شركة الاستشارات المالية الدولية (إيفا)، وذلك بإتاحة مزيد من المال لها لاستخدامه في العمليات التي تقوم بها الآن، ويجب أن يتم ذلك بدعم واضح من البنوك وبدون إضاعة المزيد من الوقت، وقد اتضح الآن أن الشركات الخليجية التي طالما أسيء إليها دعائياً هي أو من هبَّ للنجدة فخصصت مبلغاً كبيراً لدعم “إيفا”، أما شركة المقاصة المقترحة فالمطلوب أن تكون برأسمال كبير يبيح لها إمكانية معالجة وضع صعب كالذي نحن فيه، وأن تخرج إلى حيز الوجود بسرعة، وأن توكل إدارتها إلى المختصين الآن؛ وهم شركة الاستشارات المالية الدولية (إيفا) بالذات.
6- وفي هذه الأثناء، أين شركات الأوراق المالية؟ ولماذا لا تتصدى هي كذلك لعمليات المقاصة؟ ولماذا لم يفكر المفكرون بإنشاء شركات أوراق مالية خليجية تقوم بدور مماثل للشركات الكويتية؟
7- الشركات الاستثمارية والشركات المقفلة التي أنشئت خلال هذا العام، لا شك أنها دخلت السوق شأنها شأن غيرها، والعديد منها حقق أرباحاً كبيرة، وعليها الآن أن تدفع للاقتصاد الوطني ضريبة اعتراف بالجميل الذي مكَّنها من تحقيق تلك الأرباح دون مجهود يذكر، اللهم إلا الدخول في صفقات المضاربة بالأسهم والعقار.
8- البنوك الوطنية مرتبطة بالسوق وما يحدث فيها، وهي القلب النابض للاقتصاد، وبذلك ينعكس عليها ما يحدث في السوق، وعليها الآن أن تعي هذا الدور الأساسي الموكل إليها، فتراعي ظروف الناس، وتسهل لهم الأمور عن طريق تجديد التسهيلات أو إعادة جدولتها، والتباحث مع البنك المركزي من أجل التوسع في نظام الإقراض متوسط الأجل، بالإضافة إلى الإقراض السنوي الحالي.
9- كل ذلك يصب في المجهود الجماعي المشترك الذي لا بد أن يشترك فيه الجميع؛ إذ لا يوجد حل سحري واحد، ولكن الحل يكمن في التضافر العام، وفي الرغبة والتصميم على اجتياز الامتحان، وليس هذا وقت إثارة النعرات وإبداء الشماتة، فالضرر إذا حصل سيشمل الجميع، وسيشمل ما هو أهم من ذلك، وأتى مفهوم المواطنية والانتماء لهذا البلد الذي أغدق على مواطنيه ما لم يغدقه أي بلد آخر على مواطنيه، وبات عليهم الآن أن يتجاوبوا مع ندائه ويرتفعوا إلى مستوى المسؤولية.
10- تبقى مسؤولية الحكومة، ولا أعتقد أن أحداً يطالب الحكومة بضخ أموال الاحتياطي في السوق، ولكن المفروض في الحكومة أن تكون قد تحسبت لهذا الظرف الطارئ وأعدت له العدة، والموضوع الآن يتعلق بمواطنيها قبل كل شيء، ومجرد معرفة الناس بأن الحكومة سترمي بثقلها في الميدان؛ سيزيل الهلع والخوف ويعيد الثقة، ويمكِّن السوق من علاج نفسها بنفسها، ولكن يجب أن يكون واضحاً أن الدولة ستتدخل وإنها لن تقف متفرجة، وكيف تقف متفرجة والأمر يمس غالبية الناس كبيرهم وصغيرهم.
وبعد؛ إن كل الدلائل والإشارات تفيد بأن الدولة والقطاع الخاص في طريقهما إلى احتواء الأزمة وضبطها وإعادة الأمور إلى مجاريها، ولا شك أن التجربة ستعكس نفسها على الناس وتعاملهم مع بعضهم في المستقبل، بحيث يختفي اللعب والتلاعب، ويحل محله الإجار الجدي القائم على الأصول الأخلاقية والضوابط القانونية المتينة، وربما كان هذا حافزاً على إحكام الرقابة على السوق واتباع الأصول العالمية التي تحكم أسواق الأوراق المالية، ويخطئ من يظن أننا مختلفون عن باقي البشر، فالذي حصل هنا حصل مثله في نيويورك وغيرها، وأدى بعد ذلك إلى وضع الأنظمة والضوابط.
وقي الله البلاد من المكروه، وأبقاها سالمة كي تؤدي دورها البنَّاء في المحيط العربي والدولي.