January 6, 1983

هذا اصطلاح كَثُر استخدامه هذه الأيام، ولقد كان هدف الذين صاغوه أن يربطوا موضوع الأمن – وهو موضوع خطير – بموضوع الغذاء، وهو لا يقل خطورة، ولكنه لا يرتبط في أذهان الناس بالخطر الداهم الذي يهدد البلاد العربية الآن، كما أن كثرة استعمال الاصطلاح وترديده في غير مكانه يكاد يفقده معناه ويزيل عنه صفة الخطر والاستعجال.

ولكن الأمن الغذائي أمر غاية في الخطورة بالنسبة لمستقبل هذه المنطقة.

والذي يلقي نظرة مبدئية على أرقام التجارة الخارجية للبلاد العربية يذهل من المدى الذي تعتمد فيه البلاد العربية من أجل غذائها على الاستيراد من الولايات المتحدة والدول الدائرة في فلكها، فنحن ننتج 14 مليون طن من الحبوب في أنحاء العالم العربي ونستورد 40 مليون طن بالمقابل!

وإذا كان أحد يعتقد بالصداقة الدائمة والأبدية للولايات المتحدة؛ فإن عليه مراجعة أفكاره؛ ذلك أنه لا توجد بين الدول صداقات دائمة، ولكن توجد مصالح دائمة، ومصالح الولايات المتحدة تخضع دائماً وفي المستقبل المنظور لقوى الضغط المؤثرة داخل المجتمع الأمريكي، وأقوى هذه القوى الضاغطة هي قوى اليهود الأمريكيين.

ولقد تلقت الولايات المتحدة درساً قاسياً حين أقدَمَ العرب على حظر النفط خلال حرب أكتوبر 1973م، ولكنها وعت الدرس بإمعان، وخطط مهندس السياسة الأمريكية الحديثة دكتور هنري كيسنجر لكي يفرغ سلاح النفط العربي والمال العربي من محتواهما خلال عشر سنين، وذلك اعتباراً من عام 1975م، ولقد بذل العرب قصارى جهدهم لمساعدته في خطته بحيث أمكن تحقيق ذلك الهدف قبل الموعد المتوقع له بثلاث سنين على الأقل! وزاد على ذلك بأن أضاف إيران إلى قائمة الدول التي فقدت فاعلية سلاحها النفطي والمالي، وتعمل الحرب العراقية الإيرانية على تدوير المال المدفوع للنفط بحيث يعود إلى الغرب مقابل السلاح الخردة الذي لا يحتاج إليه الغرب ولكنه يكفي لإبقاء فتيل الحرب مشتعلاً بين العراق وإيران، وبحيث لا يمكن لأي طرف من الطرفين المتحاربين تحقيق نصر حاسم على الطرف الآخر.

وسوف تكمل الولايات المتحدة درسها بتلقين العرب درساً آخر؛ وهو التهديد بقطع الغذاء عنهم إذا هم فكروا مرة أخرى في اللجوء إلى ما تبقى لهم من سلاح النفط والمال.

من هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى الأمن الغذائي؛ أي من المنطلق الإستراتيجي البحث الذي يتعلق بأبسط متطلبات الحياة في الوطن العربي، ويجب ألا ينظر إليه من منظار الاستثمار التجاري الذي لا بد من احتساب مردوده وتقدير مخاطره ومقارنته مع البدائل الأخرى المتوافرة عوضاً عنه.

ولكن يجب أن ينظر إليه من منظار الإسراع – قبل أن يفوت الأوان – في ضخ ما تستطيع ضخه من المال لمحاولة تكوين مخزون غذائي إستراتيجي في البلاد العربية، وليس معنى المخزون أن نشتري الحبوب ونخزنها، فهذه العملية قصيرة الأمد، ولكن معنى ذلك هو الاستثمار في إنتاج الغذاء وفي بناء الهياكل الأساسية من مواصلات وطرق وموانئ وسكك حديد ومكارات ومخازن؛ الأمر الذي يساعد على الاستثمار في إنتاج الغذاء، وتوجيه المال السائل الموجود حالياً في احتياطيات البلاد العربية الغنية نسبياً والذي يفقد قيمته يومياً وتدريجياً إلى البلاد العربية القادرة على الإنتاج الغذائي متى ما توافرت لها العناصر الأساسية التي تحتاج إليها الزراعة.

ويأتي في مقدمة هذه البلاد السودان، ولقد قاسى الكثيرون من الذين طرقوا باب الاستثمار في السودان – ومنهم الكاتب – من الأوضاع البيروقراطية المتخلفة هناك، ومن انعدام الاهتمام على مستوى الإدارة المتوسطة؛ مما أدى إلى هجرة العناصر النشطة من السودان إلى البلاد العربية الغنية، ولكن الخطر الإستراتيجي المحدق بالعرب يجب أن يقودهم إلى تحمل هذه المصاعب ومواجهتها ومحاولة علاجها والتغلب عليها؛ وذلك بإغراق السودان بالمشاريع الاستثمارية، وتوجيه المال العربي المخصص لعقد التنمية العربي إلى بناء المرافق والبنية الأساسية التي تحتاجها البلاد وربطها بشمال وادي النيل مع مصر بسكة حديد وبطريق دولي واسع يسهل انتقال اليد العاملة النشطة من مصر من ناحية، ويسهل انتقال الإنتاج الغذائي من السودان إلى مصر وغيرها من البلاد العربية.

ونفس الاتجاه يجب أن يتحرك نحو مصر ونحو المغرب وتونس وسورية واليمن والأردن وغيرها من البلاد العربية التي يمكن تكثيف الزراعة فيها وزيادة الإنتاج الغذائي من حبوب ولحوم ومواد غذائية أساسية أخرى.

قد تبدو هذه الدعوة في نظر البعض ضرباً من الخيال، وقد يقول البعض: إن هذا تبذير لأموال الأجيال القادمة، وإن الاستثمار في الزراعة وفي البلاد العربية أمر متعب، وإن القوانين السائدة والإجراءات الإدارية المعرقلة تشكل عوائق أساسية أمام تدفق المال العربي إليها، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن لا يوجد خيار ولا بديل أمامنا إلا إذا كنا قد وصلنا إلى درجة من الخنوع بحيث نقبل الاستعمار “الإسرائيلي” الجديد الذي يقترب يوماً بعد يوم من الاستعمار الذي تمارسه جنوب أفريقيا في مناطق السود حيث لا تعترف بهم كمواطنين ولكنها تستمر في حكمهم واستغلالهم والسيطرة على مقدراتهم والتحكم فيها.

ولقد أسفر مؤتمر الطائف الذي حضره مئات من رجال الأعمال والمستثمرين العرب من جميع أنحاء العالم الذي انعقد في أبريل الماضي عن توصية بإنشاء شركة كبرى تتولى مسؤولية الأمن الغذائي، وانعقدت لهذا الغرض عدة اجتماعات في غرفة التجارة والصناعة الكويتية، والأمل كبير في أن تسفر هذه الاجتماعات عن نتائج إيجابية، فالوقت قصير جداً.

Comments are closed.