يخيم على العالم الآن شبح أزمة اقتصادية كبرى، وهي أزمة تبدو معالمها واضحة من عدة جوانب، فعدد العاطلين عن العمل في الدول الصناعية يكان الآن يصل إلى المستويات التي شهدها العالم قبل الأزمة الاقتصادية الشهيرة عام 1929م.
وانهيار الصناعات التقليدية في الغرب؛ كصناعة السيارات في الولايات المتحدة وبريطانيا، أصبح حقيقة لا تقبل الشك، واتجاه الدول الصناعية الكبرى إلى التقوقع في ظل ستار مكثف من الحماية الجمركية والإدارية لصناعتها، بات يهدد كيان التجارة العالمية؛ مما قد يؤدي إلى توقفها.
هذا من ناحية العالم الثالث، فالوضع لا يقل مأساوية.
فبضائعها وموادها الأولية تشهد انخفاضاً مطرداً في الأسعار، وتكاليف الطاقة بالنسبة لها تكاد تحطم عمودها الفقري، فإذا لم تتكفل هذه التكاليف بتحطيمه، فإن الفوائد المترتبة على القروض المستحقة عليها ستكون كفيلة بذلك، أما القروض نفسها فيبدو أن مصيرها سيكون مثل مصير القرض الوطني الأمريكي أو البريطاني الذي لا يفكر أحد بدفعه، ولكن الفوائد عليه ما زالت سارية، هذا بالإضافة إلى توقف طموحات التنمية في معظم هذه الدول في الوقت الذي تتزايد فيه طلبات الناس وتتعاظم آمالهم.
وليس أوضح على ذلك من مثال الدعم الذي يتوقع الناس استمراره، للغذاء والملبس وبعض الخدمات العامة الأساسية، بينما خزائن الدول آخذة في الاضمحلال والتقلص.. في البلاد الفقيرة التي يحتاج مواطنوها آلة هذا الدعم.
هذا هو الوضع الاقتصادي العالمي الآن.
وفي 22 يناير 1983م طلعت مجلة “الإيكونومست” البريطانية برأي مثير للغاية، ولكن الإثارة تزول إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مالكي مجلة “الإيكونومست” هم عائلة روتشيلد اليهودية المشهورة.
تحت عنوان “نريد نفطاً رخيصاً” تقول مجلة “الإيكونومست”: إن من صالح الغرب أن يساعد في التعجيل بنهاية منظمة “الأوبك” وتحطيمها وفسح المجال مرة أخرى لانخفاض أسعار النفط انخفاضاً ملموساً يؤدي إلى تشغيل المصانع المعطلة حالياً في الغرب، وحتى لو قاد هذا إلى الإخلال بميزان المدفوعات في بريطانيا التي تنتج النفط، فإن الفائدة العامة التي تعود على الغرب تفوق كثيراً أي أضرار مؤقتة قد يسببها انهيار أسعار النفط وتصيب بريطانيا نفسها، بل إن تكاليف الطاقة ستنخفض انخفاضاً دراماتيكياً حين يتوافر النفط الرخيص، وتكف الدول الغربية عن البحث عنه في الصخور وفي الصحاري الجليدية في ألاسكا وفي بحر الشمال بين الأمواج العاتية والطقس السيئ.
وتذهب “الإيكونومست” إلى أبعد من ذلك فتقول: إن أموال الاحتياطي لدى الدول النفطية التي أودعتها تلك الدول في البنوك العالمية الكبرى تحسباً لمثل هذا اليوم الذي تنخفض فيه الأسعار قد ذهبت على شكل قروض ميتة للدول النامية، ولا ترى “الإيكونومست” بأساً في أن تمتنع هذه البنوك أو تعجز عن السداد للدول النفطية إذا حاولت هذه أن تلجأ للاستعانة باحتياطياتها لتعويض نقص مواردها في حالة انخفاض الأسعار؛ وهذا سيؤدي إلى إعلان سقوط وإفلاس بعض البنوك العالمية الكبرى، وتعتقد “الإيكونومست” أن كل ما سيحدث بعد ذلك هو عناوين مثيرة في الصحف لبضعة أيام وتتدخل البنوك المركزية لتفرض قيوداً صارمة وأنظمة حديدية على البنوك ثم ينتهي كل شيء!
وانتهاء كل شيء في رأي “الإيكونومست” معناه:
أن سقوط “الأوبك” سيوفر للغرب نفطاً رخيصاً، وأن امتناع البنوك العالمية الكبرى عن السداد للدول النفطية إذا حاولت سحب جزء من أموالها سيؤدي إلى إفلاس تلك البنوك، ولكنه في الوقت نفسه سيقضي بجرة قلم على جزء كبير من احتياطيات الدول النفطية إن لم يؤدِّ ذلك إلى سحق الاحتياطيات كلها، وهذا أمر مرغوب به في نظر “الإيكونومست”؛ إذ إن زوال تلك الاحتياطيات سيؤدي إلى إضعاف قدرة البلاد النفطية على مقاومة انخفاض الأسعار عن طريق تحديد الإنتاج النفطي، وسيقود إلى سباق محموم بينها لإعادة ملء خزائنها عن طريق زيادة الإنتاج النفطي الذي سيؤدي بدوره إلى مزيد من الانخفاض في الأسعار.. وهلم جرا، المهم أن الهدف في رأي “الإيكونومست” هو إعادة تشغيل المصانع العاطلة، وإعادة توظيف الملايين من العاطلين في الدول الصناعية الغربية.. أما ماذا سيحصل في الدول النفطية، فلا تكلف “الإيكونومست” نفسها عناء الاهتمام به ولو بسطرين.
هكذا يخطط الغرب وهكذا يدبر أموره، ولا نستطيع نحن أن نلومه على ذلك، ولكن علينا أن نستخلص العبرة من ذلك.
والعبرة الوحيدة هي في عدم الثقة بالغرب، وعدم وضع بيضنا بسلة واحدة، وعدم تركيز أموالنا واحتياطياتنا في الغرب، وتوجيه الجزء الأكبر منها لتنمية الوطن العربي، وتحقيق استقلال جزئي في الغذاء والإنتاج الصناعي، وهو أمر ممكن بل وضروري وتتساوى في تنفيذه الحكومات والقطاع الخاص.
والذي يقرأ “الإيكونومست” بانتظام يلاحظ عمق التفكير الإستراتيجي في مقالاتها وأبحاثها، والذي تكتبه “الإيكونومست” اليوم يظهر بعد قليل على شكل سياسات واضحة في الكثير من الدول الغربية.
ولهذا؛ فإن الحديث عن الأمان في الاستثمارات العربية الموجودة في الغرب هو حديث رومانسي وغير عملي، فالأمان أصبح الآن نسبياً، ووجوده أو عدم وجوده يتوقف على الظروف السياسية والاقتصادية السائدة في أي وقت من الأوقات، والذين يعتقدون أن الأمان موجود غرباً أكثر من وجوده عربياً يخطئون كثيراً، أو لنقل: إنهم يعللون من شأن الأفكار التي تطرحها مراكز التفكير والبحث الإستراتيجي.
وليس هناك حل سحري أو علاج أوحد، ولكن الحكمة تقتضي أن نكثف من استثماراتنا في البلاد العربية والبلدان الصديقة؛ لعل في هذا مزيداً من الاطمئنان من ناحيتنا، ومزيداً من الرصيد الذي قد نحتاج إليه في يوم من الأيام ونحن نعالج مشكلاتنا التي لا تنتهي.