March 3, 1983

ارتفاع أسعار النفط في السنوات العشر الأخيرة صار جزءاً من الحياة اليومية العادية للناس، بحيث لم يلتفتوا إلى الآثار السياسية التي ترتبت عليه، وأولها كان الثورة الإيرانية، التي أجج نيرانها انهمار الأموال النفطية على الدول وأجهزتها؛ مما أشاع البذخ والفساد والرشوة، وجذب ألوف الناس إلى المدن، ورأوا بأعينهم كيف تعيش الطبقة الحاكمة وكيف تتصرف في المال السائب؛ فصاروا هم وقود الغليان الشعبي الذي قاده رجال الدين وأطاحوا بالنظام القديم في إيران.

ومن آثار ارتفاع أسعار النفط، السرعة التي تم فيها إنجاز مشروعات هائلة في المواصلات والاتصالات وتحويل نمط الحياة مادياً بشكل يهدد بقلب الموازين، وإشاعة اضطراب نفسي لدى الناس، لا يعادله أي اضطراب في الجزيرة العربية، ولم يصحب ذلك تغير في المفاهيم والمقاييس الخلقية.. بل العكس.. زاد تمسك الدولة بمظاهر الأخلاق، وتدخلها في الأمور الشخصية للمواطنين، تحسباً لآثار ذلك الاضطراب النفسي الذي صاحب الفورة العمرانية.

ومن آثاره كذلك البذخ الذي انتشر في أنحاء منطقة الخليج، والارتفاع الكبير في تكلفة المشروعات وعدم الاهتمام بذلك، باعتبار أن الدخل النفطي سيغطي أي عجز وأي ارتفاع في التكلفة.

وبالنسبة للأفراد، تغير نمط حياتهم وطريقة صرفهم وتبدلت احتياجاتهم الشخصية من البساطة إلى التعقيد، وصار التمسك بالأشياء الملموسة كالملكيات والعقار من الأمور المهمة في حياتهم، وحتى أشكالهم تغيرت بسبب الإسراف في الأكل؛ فظهرت الكروش وانتشرت الأمراض الحضارية كالضغط والسكر وأمراض القلب والكآبة والسرطان.

وفوق كل هذا وذاك، فإن وجود المال بتلك الوفرة أعطى البلاد النفطية، وخاصة في منطقة الخليج والجزيرة العربية، ثقلاً سياسياً كبيراً لا يبرره عدد السكان، ولا درجة التقدم الحضاري، ولا القوة العسكرية، وإنما اعتمد أساساً على القوى المالية، وتم صقله بسبب حذاقة وكفاءة أقطاب الدبلوماسية الخليجية بشكل عام.

وجاء غياب مصر عن الساحة العربية في أواخر السبعينيات ليتوج النفوذ السياسي الجديد للجزيرة العربية ومنطقة الخليج.

وبالنسبة للدول غير النفطية، فإن ارتفاع أسعار النفط أثَّر عليها بشكل واضح كذلك، فالأردن استطاع الاستغناء عن العون الأجنبي من الولايات المتحدة وبريطانيا، الذي كان يكبّله ويربطه مع الغرب برباط أوثق من اللازم.

واعتمد الأردن على المعونة العربية المباشرة، وعلى التحويلات التي كانت تتم من قبل مواطنيه من العاملين في دول الخليج والجزيرة العربية.

ومصر استفادت بعد الحرب عام 1973م وارتفاع الأسعار، عن طريق العون المالي المباشر، وعن طريق الاستثمارات، وعن طريق المساهمة في تحمل جزء من نفقات التسليح، وحتى بعد أن توقفت تلك القنوات المتدفقة، فإن مصر استفادت من فائدة كبيرة من تحويلات المصريين العاملين في الدول النفطية في الخليج والجزيرة العربية وليبيا، ولا تزال تحويلات المصريين تشكل العنصر الأول من عناصر الدخل المتحصل لمصر من العملات الأجنبية، وتفوق في ذلك دخل مصر من النفط أو من قناة السويس أو من صادراتها التقليدية كالقطن.

والآن يأتي انخفاض الأسعار في أسوأ وضع يمكن أن يكون فيه العالم العربي، فاحتياطيات الدول النفطية الغنية كالسعودية والكويت بدأت الآن تسخَّر لسد عجز الميزانية في كلا البلدين، والحرب العراقية الإيرانية استنفدت احتياطيات العراق وإيران معاً، وبدأت في استنزاف احتياطيات دول الخليج بشكل أو بآخر.

والمشروعات المتعاقد عليها في الدول النفطية لم يكتمل تنفيذها ولا بد من إكمالها.

ونمط الاستهلاك الفردي وصل إلى درجة غير معقولة، ولكنه أصبح أمراً مألوفاً، والمواطن يعتبر أن له حقوقاً ويرفض تحمل أبسط الواجبات؛ ولهذا فإن حكومات هذه الدول ستجد صعوبة كبيرة في تحويل هذا النمط، وتغييره ليتماشى مع الواقع الجديد.

ومعنى انخفاض أسعار النفط هو انخفاض في الدخل الذي يؤدي إلى انخفاض في حجم الإنفاق رأسمالياً على المشروعات، أو استهلاكياً على السلع والبضائع، وإذا انخفض حجم الإنفاق؛ انخفضت معه الحاجة إلى العمالة يؤدي بالطبع إلى قيام الدول المعنية بالأمر بترحيل الأعداد الزائدة منها.. وقد ضربت نيجيريا مثالاً على ذلك في الآونة الأخيرة، وإذا افترضنا أن الترحيل سوف يمس العمال الأجانب، فإن اقتصاديات الدول الآسيوية في باكستان والهند وسيلان وتايلاند والفلبين وكوريا سوف تتأثر بسبب انخفاض تحويلات العمال الآسيويين إلى أوطانهم الأصلية، وإذا تبع ذلك مزيد من الترحيل يمس العمال العرب، فإن انخفاض تحويلات العمال العرب سوف يؤثر سلبياً على الأردن ومصر وسورية والبلاد العربية المصدرة للعمالة بشكل عام.

وإذا انخفضت العمالة الأجنبية ثم العربية في البلاد النفطية؛ انخفضت معها القوة الشرائية التي تعتمد عليها السوق، وأدى ذلك إلى انخفاض الاستيراد.. وهكذا.. هلم جرا.. بحيث يكثر سقوط حبات المسبحة واحدة تلو الأخرى، كسبب مباشر أو غير مباشر على سقوط الشاهد الذي يحفظ حبات المسبحة.

إذاً انخفاض أسعار النفط لن يؤدي إلى النتيجة التي يتوقعها الناس العاديون في البلاد غير النفطية؛ وهي انخفاض أسعار الوقود فقط.

انخفاض أسعار النفط سيُحدث انقلاباً كبيراً في كثير من المعادلات والأمور المسلَّم بها التي ألفها العالم خلال السنوات العشر القادمة، فمعظم الدول النفطية مارست دور الوسيط الذي انتقلت من خلاله الثروة من الدول الصناعية الغنية إلى الدول الفقيرة، وذلك من خلال المساعدات السخية التي قدمتها الدول النفطية للدول الفقيرة التي سينضب معينها في حالة انخفاض أسعار النفط انخفاضاً دراماتيكياً.

وإذا انخفضت المعونات من الدول النفطية، وانخفض دخل العمالة إلى وطنها الأم؛ فإن القلاقل والاضطرابات المتولدة نتيجة لذلك ستكون بشكل لا يعلم مداه إلا الله، وربما أدت إلى الإطاحة بأنظمة الحكم السائدة أو زعزعتها من كيانها الذي يبدو آمناً في الظاهر.

ونمط الإنفاق الحكومي في الدول النفطية سيتغير هو الآخر، وستقل أو تختفي المساعدات الكبيرة التي تمنحها الدول لأسعار الكهرباء والماء والهاتف والوقود والإسكان وغيره من الخدمات شبه المجانية، وربما جاء يوم يشمل فيه التخفيض حتى الخدمات المجانية كالتعليم والتطبيب.

وواجب الحكومات هو تهيئة مواطنيها لمواجهة أهم اختبار لمواطنيتهم؛ وهو دفع الضريبة المباشرة على الدخل لتمويل نفقات إدارة البلاد التي يعيشون في ظلها وتحت حمايتها، كما أن واجب ممثلي الشعب في الكويت بالذات هو أن يبدؤوا في تهيئة ناخبيهم لهذا الحدث التاريخي.. الذي يحدث في الكويت اليوم.. يحدث غداً في بقية بلدان الخليج.. وكما أننا وصلنا في نمونا كدولة إلى مرحلة التجنيد الإجباري، فإننا على قاب قوسين أو أدنى من مرحلة ضريبة الدخل المباشر.

Comments are closed.